: قصة لوط - عليه السلام - وإهلاك قومه
في سفر التكوين أن لوطا - عليه السلام - ابن هارون أخي إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - وأنه هاجر معه من مسقط رأسهما ( أور الكلدانيين ) في العراق إلى أرض الكنعانيين ، وسكن إبراهيم في أرض كنعان ، ولوط في مدن دائرة الأردن ، وقاعدتها سدوم ، ويليها عمورة فصوغر ، وإنما افترقا اتقاء اختلاف رعيانهما وإيقاعهما في الخصومة التي لا ينبغي أن تكون بين الآخرين ( أي العم وابن أخيه ) وكان لوط - عليه السلام - في سدوم ، ويظن الكثيرون من الباحثين أن بحيرة لوط قد غمر موضعها بعد الخسف فلا يعلم موضعه بالضبط .
وقيل إنه عثر على آثارها في هذا العهد .
ولما جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقال هذا يوم عصيب ( 77 ) وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات قال ياقوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزوني في ضيفي أليس منكم رجل رشيد ( 78 ) قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد ( 79 ) قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد ( 80 ) .
هذه الآيات الأربع في قوم لوط إليه للاعتداء على ضيفه وسوء حاله معهم - إهراع ولما جاءت رسلنا لوطا - بعد ذهابهم من عند إبراهيم - سيء بهم وضاق بهم ذرعا - [ ص: 111 ] أي : وقع فيما ساءه وغمه بمجيئهم وضاق بهم ذرعه أي عجز عن احتمال ضيافتهم ، فذرع الإنسان منتهى طاقته التي يحملها بمشقة ; ذلك لما يتوقعه من اعتداء قومه عليهم كعادتهم ، وروي أنهم جاءوه بشكل غلمان حسان الوجوه - وقال هذا يوم عصيب - شديد الأذى ، مرهوب الشذى ، مشتق من العصب بفتح فسكون ، أي الشد فهو بمعنى معصوب ، ويجوز أن يكون بمعنى عاصب ، والعصب بالتحريك أطناب المفاصل ، ومنه العصابة التي يشد بها الرأس .
- وجاءه قومه يهرعون إليه - أي جاءوه يهرولون متهيجة أعصابهم ، كأن سائقا يسوقهم ، قال في المصباح المنير : هرع وأهرع بالبناء فيهما للمفعول إذا أعجل على الإسراع ، أي حمل على العجل به اهـ . وقال الكسائي وغيرهما : لا يكون الإهراع إلا إسراعا مع رعدة من برد أو غضب ، أو حمى اهـ . والفراء
وينبغي أن يزاد عليه أو شهوة شديدة ، وقال مجاهد : هو مشي بين الهرولة والعدو : - ومن قبل كانوا يعملون السيئات - ومن قبل هذا المجيء كانوا يعملون السيئات الكثيرة ، وشرها أفظع الفاحشة وأنكرها في الفطرة البشرية والشرائع الإلهية والوضعية ، وهي إتيان الرجال شهوة من دون النساء ، ومجاهرتهم بها في أنديتهم كأنها من الفضائل يتسابقون إليها ويتبارون فيها ، كما حكى الله عنه من قوله بعد رميهم بالفاحشة : - أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر - 29 : 29 فماذا فعل لوط ولم واجههم وعارضهم ؟ - قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم - فتزوجوهن ، قيل : أراد بناته من صلبه ، وأنه سمح بتزويجهم بهن بعد امتناع لصرفهم عن أضيافه ، وقيل : أراد بنات قومه في جملتهن ; لأن النبي في قومه كالوالد في عشيرته ، قاله - رضي الله عنه - ابن عباس ومجاهد ، ويدخل فيه نساؤهم المدخول بهن وغيرهن من المعدات للزواج ، يعني أن الاستمتاع بهن بالزواج أطهر من التلوث برجس اللواط ; فإنه يكبح جماح الشهوة مع الأمن من الفساد ، وصيغة التفضيل هنا للمبالغة في الطهر فلا مفهوم لها ، وهذا كثير في اللغة ، ويقول النحويون فيه : إن أفعل التفضيل على غير بابه ، والظاهر أنه يأمرهم في هذه الحال الذي هاجت فيه شهوتهم واشتد شبقهم أن يأتوا نساءهم ، كما ورد في الإرشاد النبوي لمن رأى امرأة أعجبته أن يأتي امرأته في تلك الحالة التي هاجته فيها رؤيتها . وسعيد بن جبير
وزعم بعض المفسرين أنه - عليه السلام - عرض على هؤلاء الفساق المجرمين بناته أن يستمتعوا بهن كما يشاءون ، ومثل هذا في سفر التكوين ( 19 : 8 ) وفيه أنهما اثنتان ، ولا يعقل أن يقع هذا الأمر من أي رجل صالح فضلا عن نبي مرسل ، ولا يصح في مثله أن يعبر عنه بأنه أطهر لهم ، فغسل الدم بالبول ليس من الطهارة في شيء ، وإن كان يعتقد أنهم لا يجيبونه إلى هذا الفعل ، بل الذنب في هذه الحال أكبر ; لأنه أمر بالمنكر ، وخروج عن الحكم الشرعي إيثارا للتجمل الشخصي ، وهو لا يتعارض مع قوله لهم بعده - فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي -
[ ص: 112 ] فإن الزنا ليس من التقوى بل هو هدم لها ، وإنما معنى هذا الأمر والنهي : فأجمعوا بما أمرتكم به بين تقوى الله باجتناب الفاحشة ، وبين حفظ كرامتي وعدم إذلالي وامتهاني بفضيحتي في ضيفي ، فإن فضيحة الضيف فضيحة للمضيف وإهانة له . ولفظ الضيف يطلق على الواحد والمثنى والجمع : - أليس منكم رجل رشيد - ذو رشد يعقل هذا فيرشدكم إليه ؟
- قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق - فإنهن محرمات علينا في دينك ، أو يعنون أن الحق عندهم نكاح الذكور مستشهدين بعلمه به تهكما ، أو الحق هنا الحاجة والأرب ، والمعنى : لقد علمت من قبل أنه ليس لنا في بناتك من حاجة أو رغبة في تزوجهن فتصرفنا بعرضهن علينا عما نريده ، أو لقد علمت الذي لنا في نسائنا اللواتي تسميهن بناتك من حق الاستمتاع وما نحن عليه معهن ، فلا معنى لعرضك إياهن علينا لصرفنا عما نريده - وإنك لتعلم ما نريد - من الاستمتاع بالذكران ، وأننا لا نؤثر عليه شيئا . أي : تعرف ذلك حق المعرفة لا ترتاب فيه ، فلم تحاول صدنا عنه ؟ فعلم أنهم مصرون على إرادتهم فماذا فعل ؟ . - قال لو أن لي بكم قوة - أي : قال لوط لأضيافه حينئذ : لو أن لي بكم قوة تقاتل معي هؤلاء القوم وتدفع لقاتلتهم ، أو أتمنى لو أن لي بكم قوة ألقاهم بها ، أو قال هذا لقومه ، والمعنى كما قال في الكشاف : لو قويت عليكم بنفسي - أو آوي إلى ركن شديد - من أصحاب العصبيات القوية الذين يحمون اللاجئين ويجيرون المستجيرين ( كزعماء العرب ) تمنى ذلك لأنه لم يكن منهم فيعتز بهم ، وإن سماهم قومه بمعنى أهل جواره ووطنه الجديد ، وإنما هو غريب جاء مع عمه من أور الكلدانيين في العراق .
ويرجح الأول جواب الملائكة له وقد رأوا شدة كربه وما آلت إليه حاله وهو :