ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا وصفهم بالإيمان وذكرهم بالتقوى ، ثم انتقل إلى الأمر بترك ما بقي من الربا لمن كانوا يرابون منهم عند غرمائهم ، ثم وصل ذلك بقوله : إن كنتم مؤمنين قال الأستاذ الإمام : أي إن كان إيمانكم تاما شاملا لجميع ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الأحكام فذروا بقايا الربا ، وقد عهد في الأسلوب العربي أن يقال : إن كنت متصفا بهذا الشيء فافعل كذا ، ويذكر أمرا من شأنه أن يكون أثرا لذلك الوصف . أقول : ويؤخذ من هذا أن من لم يترك ما بقي من الربا بعد نهي الله - تعالى - عنه وتوعده عليه فلا يعد من أهل هذا الإيمان التام الشامل الذي له السلطان الأعلى [ ص: 86 ] على إرادة العامل ، وهذا يؤيد ما قلناه في مسألة . ومن الناس من يؤمن ببعض الكتاب إيمانا يبعث على العمل ، ويكفر ببعض فلا يذعن له ويعمل به ، فهو يجحده بفعله وإن أقر به بلسانه ، ولا يعتد الله بإيمانه إلا إذا صدق قلبه وعمله لسانه خلود من عاد إلى الربا بعد تحريمه في النار . لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن
فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله أي فإن لم تتركوا ما بقي لكم من الربا كما أمرتم فاعلموا واستيقنوا بأنكم على حرب من الله ورسوله إذ نبذتم ما جاءكم به رسوله عنه . فقوله : فأذنوا كقوله : " فاعلموا " وزنا ومعنى وهي قراءة الجمهور ، وقرأ حمزة وعاصم في رواية ابن عياش ( فآذنوا ) بمد الألف من الإيذان بمعنى الإعلام ، أي فأعلموا أنفسكم - أي ليعلم بعضكم بعضا - أو المسلمين بأنكم محاربون لله ورسوله بالخروج عن الشريعة وعدم الخضوع للحكم ، وهذا يستلزم أن يكونوا عالمين بذلك ، كأنه يقول : إن عدم الخضوع للأمر خروج عن الشريعة ، فهو إعلام للمسلمين بأنكم خارجون عن حكم الله ورسوله محاربون لهما .
فسر الأستاذ الإمام حرب الله لهم بغضبه وانتقامه . قال : ونحن إن لم نر أثر هذا في الماضين فإننا نراه في الحاضرين ممن أصبحوا بعد الغنى يتكففون ، ومن باتوا والمسألة الاجتماعية ( مناصبة العمال لأرباب الأموال ) تهددهم بالويل والثبور . وأما الحرب من رسوله لهم فهي مقاومتهم بالفعل في زمنه ، واعتبارهم أعداء له في هذا الزمن الذي لا يخلفه فيه أحد يقيم شرعه وإن تبتم ورجعتم عن الربا امتثالا وخضوعا فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون غرماءكم بأخذ الزيادة ولا تظلمون بنقص شيء من رأس المال ، بل تأخذونه كاملا .
روى عن ابن جرير أن الآيتين نزلتا في السدي ، عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ورجل من العباس بن عبد المطلب بني المغيرة كانا شريكين في الجاهلية أسلفا في الربا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو ، وهم بنو عمرو بن عمير ، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا ; فأنزل الله وذروا ما بقي من فضل كان في الجاهلية من الربا . وأخرج عن قال : " كانت ابن جريج ثقيف قد صالحت النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن ما لهم من ربا على الناس وما كان للناس عليهم من ربا فهو موضوع ، فلما كان فتح مكة استعمل عتاب بن أسيد على مكة وكانت بنو عمرو بن عمير بن عوف يأخذون الربا من بني المغيرة ، وكانت بنو المغيرة يربون لهم في الجاهلية ، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير ، فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم ، فأبي بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام ورفعوا ذلك إلى عتاب بن أسيد ، فكتب عتاب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلت الآيتان فكتب بهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عتاب ، وقال : [ ص: 87 ] إن رضوا وإلا فآذنهم بحرب " . وأخرج أبو يعلى في مسنده وابن منده من طريق الكلبي عن أبي صالح عن نحوه . ابن عباس
وفي الآية أن ، ولكن بعض ما يعده الفقهاء منه لا ظلم فيه ، بل ربما كان فيه فائدة للآخذ والمعطي . الربا حرم لأنه ظلم
وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة أي وإن وجد غريم معسر من غرمائكم فأنظروه وأمهلوه إلى وقت يسار يتمكن فيه من الأداء . وقرأ حمزة ونافع ( ميسرة ) - بضم السين - وهي لغة كالفتح الذي قرأ به الباقون . روي أن بني المغيرة قالوا لبني عمرو بن عمير في القصة السابقة : نحن اليوم أهل عسرة فأخرونا إلى أن تدرك الثمرة فأبوا ; فنزلت الآية في قصتهم كالآيتين قبلها وأن تصدقوا خير لكم أصل تصدقوا تتصدقوا قرأ عاصم - بتخفيف الصاد - بحذف إحدى التاءين ، والباقون بتشديدها للإدغام ; أي : وتصدقكم على المعسر بوضع الدين عنه وإبرائه منه - خير لكم من إنظاره ، فهو ندب إلى الصدقة والسماح للمدين المعسر لما فيه من التعاطف والتراحم بين الناس وبر بعضهم ببعض ، وذلك من أعظم أسباب هناء المعيشة وحسن حال الأمة ; ولذلك نبه إلى العلم بذلك فقال : إن كنتم تعلمون لأن من لا يعلم وجه الخيرية في شيء ؛ لا يعمله ، ومن علم حتما ; أي إن كنتم تعلمون أنه خير لكم عملتم به وعاملتم إخوانكم بالمسامحة ، فعليكم بالعلم الذي يهديكم إلى خير العمل الذي يقرب بعضكم من بعض ويجعلكم متحابين متوادين . وقد استدل بعضهم بالآية على وجوب مطلقا ، وبعضهم على وجوب ذلك في دين الربا خاصة . وقالوا : إن هذا الواجب يفضله شيء مندوب وهو إنظار المعسر ، فإنه ليس بواجب اتفاقا . وقيل : إن المراد بالتصدق هنا الإنظار ، كأنه يقول : وهذا الإنظار الذي أمرتم به خير لكم وهو خلاف المتبادر . الإبراء والتصدق على المعسر
ثم ختم - جل ثناؤه - آيات الربا بهذه الموعظة العامة التي تسهل على المؤمن إذا وعاها السماح بالمال ، بل وبالنفس رجاء أن يلقى الله - تعالى - على أحسن حال من الفضل والكمال فقال : واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله قرأ أبو عمرو ويعقوب : ( ترجعون ) بفتح التاء وكسر الجيم من رجع . والباقون : ترجعون بضم التاء وفتح الجيم من أرجع بالبناء للمفعول; أي واحذروا يوما عظيما ترجعون فيه من غفلاتكم وشواغل الحياة الجسدية التي تشغلكم عن مراقبة الله فتصيرون إلى الله ، أي إلى الاستغراق في العلم والشعور بأنه لا سلطان إلا سلطانه ولا ملك إلا له ، ذكر معنى ذلك الأستاذ الإمام وقال ما معناه مبسوطا : أما حقيقة الرجوع [ ص: 88 ] فلا تصح هنا لأننا ما غبنا عن الله طرفة عين ، ولا يمكن أن نغيب عنه فنرجع إليه ، ولكن الإنسان في غفلته وشغله بشئونه الحيوانية يتوهم أن له استقلالا تاما بنفسه وأن له رؤساء وأمراء يخافهم ويرجوهم ، ويرى أنه تعرض له حاجات وضرورات يجب عليه أن يستعد لها بتكثير المال وجمعه من حرام وحلال . فأمثال هذه الخواطر تكون له شغلا شاغلا ربما يستغرق وقته فيصرفه عن التفكر في منافع التسامح في معاملة الناس والتصدق على المحتاج منهم ، فكان أنفع دواء لمرض انصراف النفس عن التفكر في سلطان الله وقدرته والتقرب إليه بما فيه تمام حكمته - التذكير بيوم القيامة الذي تبطل فيه هذه الشواغل ، وتتلاشى هذه الصوارف ; حتى لا يشغل الإنسان فيه شيء ما عن الله - تعالى - وما أعده من ; ولذلك قال بعد التذكير بالرجوع إليه : الجزاء للعباد على قدر أعمالهم ثم توفى كل نفس ما كسبت أي تجازى على ما عملت في الدنيا جزاء وافيا وهم لا يظلمون أي لا ينقصون من أجورهم شيئا ، بل قد يزاد المحسنون منهم فيعطون أكثر مما يستحقون على إحسانهم كما ثبت في آيات أخرى .
أخرج عن البخاري أن ابن عباس . وأخرج آخر آية نزلت آية الربا البيهقي عن عمر مثله . قال في الإتقان : والمراد بها يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا وعند أحمد عن وابن ماجه عمر : " من آخر ما نزل آية الربا " وعند ابن مردويه عن قال : خطبنا أبي سعيد الخدري عمر فقال : " إن من آخر القرآن نزولا آية الربا " وأخرج من طريق النسائي عكرمة عن قال : آخر شيء نزل من القرآن ابن عباس واتقوا يوما ترجعون فيه الآية . وأخرج ابن مردويه نحوه من طريق عن سعيد بن جبير بلفظ : آخر آية نزلت ، وأخرجه ابن عباس من طريق ابن جرير العوفي والضحاك عن . ابن عباس
وقال في تفسيره : حدثنا الفريابي سفيان عن الكلبي عن أبي صالح عن قال : آخر آية نزلت ابن عباس واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله الآية . وكان بين نزولها وبين موت النبي - صلى الله عليه وسلم - أحد وثمانون يوما . ثم ذكر في الإتقان مثله عن عند سعيد بن جبير إلا أنه قال : عاش بعد نزول هذه الآية تسع ليال ، ومثله عن ابن أبي حاتم عند ابن جريج . وعن ابن جرير عند ابن شهاب أبي عبيد : آخر القرآن عهدا بالعرش آية الربا وآية الدين . وعن عند سعيد بن المسيب مثل هذا اللفظ في آية الدين فقط . قال ابن جرير السيوطي بعد ذلك : ولا منافاة عندي بين هذه الروايات في آية الربا وآية واتقوا يوما وآية الدين ; لأن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف ، ولأنها في قصة واحدة ، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر وذلك صحيح . اهـ . أي إن كل مخبر ذكر ذلك في سياق يقتضيه . وقيل غير ما ذكر في آخر القرآن نزولا وفي مدة بقائه - صلى الله عليه وسلم - بعد [ ص: 89 ] نزول واتقوا يوما الآية . وورد أنه قال : اجعلوها بين آية الربا وآية الدين وفي رواية أخرى : جاءني جبريل فقال : اجعلوها على رأس مائتين وثمانين آية من البقرة وهكذا كان شأنه - صلى الله عليه وسلم - في ترتيب الآيات .