ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب .
لما كان المتشابه مزلة الأقدام ومدرجة الزائغين إلى الفتنة وصل الراسخون الإقرار بالإيمان به بالدعاء بالحفظ من الزيغ بعد الهداية ، فإنهم لرسوخهم في العلم يعرفون ضعف البشر وكونهم عرضة للتقلب والنسيان والذهول ، ويعرفون أن قدرة الله فوق كل شيء ، وعلمه لا يحاط به ، وهو المحيط بكل شيء ، فيخافون أن يستزلوا فيقعوا في الخطأ والخطأ في هذا المقام قرين الخطر ، وليس للإنسان بعد بذل جهده في إحكام العلم في مسائل الاعتقاد وإحكام العمل بحسن الاهتداء إلا اللجأ إلى الله - تعالى - بأن يحفظه من الزيغ العارض ، ويهبه الثبات على معرفة الحقيقة ، والاستقامة على الطريقة ، فالرحمة في هذا المقام هي الثبات والاستقامة واختاره الأستاذ الإمام . أقول : ولا تلتفت في معنى الآية إلى مجادلة الأشعرية للمعتزلة في إسناد الإزاغة إلى الله - تعالى - ، فإنه - تعالى - يسند إليه كل شيء في مقام تقرير الإيمان به ، وذلك لا ينافي اختيار العبد في زيغه . فقد قال - تعالى - في سورة الصف : فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 : 5 ] ولكل مقام مقال .
ومن مباحث الألفاظ في الآية أن قوله - تعالى - : من لدنك معناه : من عندك فإن ( لدن ) تستعمل بمعنى ( عند ) وإن لم تكن مرادفة لها - بل هي أخص وأقرب مكانا - ولا لـ ( لدى ) .
فقد فرقوا بينهما بخمسة أمور ، ولا تستعمل " لدن " إلا في الشيء الحاضر ، فهي أدل على الاختصاص . فهذه الرحمة المطلوبة منه في هذا المقام هي العناية الإلهية والتوفيق الذي لا يناله العبد بكسبه . ولا يصل إليه بسعيه ، ويؤيد ذلك التعبير بالهبة ووصفه - تعالى - بالوهاب ، فإن الهبة عطاء بلا مقابل .
ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد جمع الناس وحشرهم واحد ، وجمعهم لذلك اليوم للجزاء فيه وهو يوم القيامة ، وكونه [ ص: 190 ] ( لا ريب فيه ) معناه : أننا موقنون به لا شك فيه ; لأنك أخبرت به ووعدت وأوعدت بالجزاء فيه ، وليس معناه كمعنى ذلك الكتاب لا ريب فيه [ 2 : 2 ] أي أنه ليس من شأنه أن يرتاب فيه ; فإن الكلام هناك عن الكتاب في نفسه ، والكلام هنا حكاية عن المؤمنين الراسخين في العلم ; ولذلك علل نفي الريب بنفي إخلاف الميعاد ، وجيء به على طريق الالتفات عن الخطاب إلى الغيبة للإشعار بهذا التعليل ، هذا على قول الجمهور : أن الجملة كالدعاء من كلام الراسخين في العلم ، وجوزوا أن تكون من كلامه - تعالى - لتقرير قولهم ودعائهم وهو خلاف المتبادر .
قال الأستاذ الإمام : إن مناسبة هذا الدعاء للإيمان بالمتشابه ظاهرة على القول بأن المتشابه هو الإخبار عن الآخرة ، أي أنهم كما يؤمنون بمضمونه والمراد منه وما يئول إليه ، وأما على القول بأنه لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم فوجهه أنهم يذكرون يوم الجمع ; ليستشعروا أنفسهم الخوف من تسرب الزيغ الذي يبسلهم في ذلك اليوم .
فهذا الخوف هو مبعث الحذر والتوقي من الزيغ . أعاذنا الله منه بمنه وكرمه .