ثم قال : ويعلم ما في السماوات وما في الأرض قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله المراد بما في الصدور : ما في القلوب من الانشراح والميل للكفر أو الكره له والنفور منه ، فهو كقوله - تعالى - في الآية التي ذكرت آنفا : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا [ 16 : 106 ] إلخ ، أي أنه - سبحانه - يعلم ما تنطوي عليه نفوسكم وما تختلج به قلوبكم إذ توالون الكافرين أو توادونهم وإذ تتقون منهم ما تتقون ، فإن كان ذلك بميل إلى الكفر جازاكم عليه ، وإن كانت قلوبكم مطمئنة بالإيمان غفر لكم ولم يؤاخذكم على عمل لا جناية فيه على دينكم ولا إيذاء لأهله ، فهو يجازيكم على حسب علمه المحيط بما في السماوات والأرض ; لأنه الخالق لما في السماوات والأرض ألا يعلم من خلق [ 67 : 14 ] وهذا كالدليل على علمه بما في صدورهم ; لأنه عام ودليله ظاهر في النظام العام والله على كل شيء قدير فلا يمكن أن يتفلت من قدرته أحد ولا يعجزه شيء ، وهذا كالشرح لقوله : ويحذركم الله نفسه .
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا قال الأستاذ الإمام ما معناه : الكلام تتمة لوعيد من يوالي الكافرين ناصرا إياهم على المؤمنين ، والمعنى : اتقوا واحذروا أو لتحذروا يوم تجد كل نفس عملها من الخير مهما قل محضرا ، ولا يجوز تقدير " اذكر " متعلقا لقوله : يوم تجد كما فعل ( الجلال ) . ومعنى كونه محضرا أن فائدته ومنفعته تكون حاضرة لديه ، وأما عمل السوء فتود كل نفس اقترفته لو بعد عنها ولم تره وتؤخذ بجزائه ، وهذا يدل على أن عمل الشر يكون محضرا أيضا ، ولكنه عبر عنه بما ذكر ليدل على أن إحضاره مؤذ لصاحبه يود لو لم يكن ; أي ومنه يعلم أن إحضار عمل الخير يكون غبطة لصاحبه وسرورا . وقال الأستاذ : إن هذا التعبير ضرب من التمثيل كالآيات التي فيها ذكر كتب الأعمال وأخذها بالأيمان والشمائل ، فإن الغرض من [ ص: 233 ] التعبير بأخذها باليمين أخذها بالقبول الحسن ، ومن أخذها بالشمال أو من وراء الظهر أخذها مع الكراهة والامتعاض .
أقول : وكيف لا تجد كل نفس ما عملت محضرا فتسر المحسنة وتنعم بما أحسنت ، وتبتئس المسيئة وتغم بما أساءت ، وتود لو كان بينها وبينه بعد المشرقين ، وهذه الأعمال مرسومة في صحائف هذه الأنفس وهي صفات لها ، وعن هذه الصفات صدرت تلك الحركات فزادت الصفات رسوخا والنقوش في النفس تمكنا ، حتى ارتقت بالمحسن إلى عليين ، حيث كتاب الأبرار ، وهبطت بالمسيء إلى سجين ، حيث كتاب الفجار . ويحذركم الله نفسه فإنه من ورائكم محيط ، وسنته في تأثير الأعمال في النفوس وجعل آثار أعمالها مصدرا لجزائها حاكمة عليكم ، أفلا يجب عليكم - والأمر كذلك - أن تحذروه بما أوتيتم من القدرة على الخير والميل إليه بترجيحه على ما يعرض على الفطرة من تزيين عمل السوء والتوبة إليه - سبحانه - مما غلبتم عليه في الماضي والله رءوف بالعباد ومن رأفته أن جعل الفطرة سليمة ميالة بطبعها إلى الخير ، وتتألم مما يعرض لها من الشر ، وأن جعل للإنسان أنواعا من الهدايات يرجح بها الخير على الشر كالعقل والدين ، وأن جعل جزاء الخير مضاعفا ، وأن جعل أثر الشر في النفس قابلا للمحو بالتوبة والعمل الصالح ، وأن أكثر التحذير من عاقبة السوء ليذكر الإنسان ولا ينسى ، لعله يتذكر أو يخشى .
ومن مباحث اللفظ في الآية : دخول الحرف المصدري على مثله في قوله - تعالى - : ( لو أن ) قال الأستاذ الإمام : وهو معروف في الكلام العربي الفصيح ، فلا حاجة إلى جعل الأصل فيه المنع وتأويل ما سمع منه . وقد اختلف في تفسير الأمد فقيل : الغاية ، وقيل : الأجل ، وقيل : المكان . وقال الراغب : الأمد والأبد يتقاربان ، لكن الأبد عبارة عن مدة من الزمان ليس لها حد محدود ولا يتقيد ، لا يقال : أبد كذا ، والأمد مدة لها حد مجهول إذا أطلق وقد ينحصر نحو أن يقال : أمد كذا كما يقال : زمان كذا . والفرق بين الزمان والأمد أن الأمد يقال باعتبار الغاية ، والزمان عام في المبدأ والغاية ; ولذلك قال بعضهم : المدى والأمد يتقاربان .