فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين إذ قال الله ياعيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم
[ ص: 258 ] قال الأستاذ الإمام : انتقل من البشارة بعيسى إلى ذكر خبره مع قومه وطوى ما بينهما من خبر ولادته ونشأته وبعثته مؤيدا بتلك الآيات ، وهذا من إيجاز القرآن الذي انفرد به ، فقد انطوى تحت قوله : فلما أحس عيسى منهم الكفر جميع ما دلت عليه البشارة وعلم أنه ولد وبعث ودعا وأيد دعوته كما سبقت البشارة ، فأحس وشعر من قومه - وهم بنو إسرائيل - الكفر والعناد والمقاومة والقصد بالإيذاء ، وفي هذا من العبرة والتسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما فيه ، وإن أكبر ما فيه الإعلام بأن الآيات الكونية وإن كثرت وعظمت ليست ملزمة بالإيمان ولا مفضية إليه حتما ، وإنما يكون الإيمان باستعداد المدعو إليه وحسن بيان الداعي ; ولذلك كان من أمر عيسى - عليه السلام - أنه لما أحس من قومه الكفر قال من أنصاري إلى الله أي توجه إلى البحث عن أهل الاستعداد الذين ينصرونه في دعوته تاركين لأجلها كل ما يشغل عنها منخلعين عما كانوا فيه متحيزين ومنزوين إلى الله منصرفين إلى تأييد رسوله ونصره على خاذليه والكافرين بما جاء به قال الحواريون نحن أنصار الله أي أنصار دينه ، وهذا القول يفيد الانخلاع والانفصال من التقاليد السابقة والأخذ بالتعليم الجديد ، وبذل منتهى الاستطاعة في تأييده ; فإن نصر الله لا يكون إلا بذلك والحواريون : أنصار المسيح ، والنصر لا يستلزم القتال ، فالعمل بالدين والدعوة إليه نصر له . قال الأستاذ الإمام : ولا تتكلم في عددهم لأن القرآن لم يعينه . أقول : ولعل لفظ " الحواري " مأخوذ من " الحوارى " وهو لباب الدقيق وخالصه ; لأنه من خيار القوم وصفوتهم ، أو من " الحور " وهو البياض ، وفي حديث الصحيحين الزبير ومن هنا قيل خاص بأنصار الأنبياء لكل نبي حواري وحواريي آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون مخلصون له منقادون لأمره ، وفي هذا دليل على أن وإن اختلفوا في بعض صوره وأشكاله وأحكامه وأعماله . الإسلام دين الله على لسان كل نبي
ومن مباحث اللفظ في الآية أن ( أحس ) يستعمل في إدراك الحسي والمعنوي ، ففي حقيقة الأساس أحسست منه مكرا ، وأحسست منه بمكر ، وما أحسسنا منه خبرا ، وهل تحس من فلان بخبر ؟ والمكر من الأمور المعنوية وإن كان يستنبط من الأعمال الحسية ويستدل عليه بها . وقال البيضاوي في الآية : " تحقق كفرهم عنده تحقق ما يدرك بالحواس " وهو مبني على أن معنى أحس الشيء أدركه بإحدى حواسه ، وأن إطلاقه على إدراك الأمور المعنوية مجاز شبه فيه المعقول بالمحسوس في الجلاء والوصول إلى درجة اليقين ، على أن الكفر يعرف بالأقوال والأعمال المحسوسة .
وقال الأستاذ الإمام : إن الجار في إلى الله متعلق بلفظ أنصاري وإن لم يعرف أن مادة نصر تعدى بـ " إلى " ، ذلك بأن مجموع الكلام هنا قد أشرب الكلمة معنى اللجأ والانضمام [ ص: 259 ] لأن النصر يحصل بذلك ، ويصح أن يتعلق بوصف يفيد هذا المعنى الذي يدل عليه الأسلوب كما قدرنا في بيان العبارة ، وهو الذي جرى عليه المفسرون محافظة على القواعد الموضوعة .
ربنا آمنا بما أنزلت معطوف على قولهم نحن أنصار الله إلخ أي صدقنا بما أنزلت من الإنجيل واتبعنا الرسول عيسى ابن مريم ، قال الأستاذ الإمام : ذكر الاتباع بعد الإيمان ; لأن العلم الصحيح يستلزم العمل ، والعلم الذي لا أثر له في العمل يشبه أن يكون مجملا وناقصا لا يقينا وإيمانا ، وكثيرا ما يظن الإنسان أنه عالم بشيء حتى إذا حاول العمل به لم يحسنه فيتبين له أنه كان مخطئا في دعوى العلم . ثم قال : إن العلم بالشيء يظل مجملا مبهما في النفس حتى يعمل به صاحبه فيكون بالعمل تفصيليا ، فذكر الحواريين الأتباع بعد الإيمان يفيد أن إيمانهم كان في مرتبة اليقين التفصيلي الحاكم على النفس المصرف لها في العمل فاكتبنا مع الشاهدين للرسول بتبليغ الدعوة ، وعلى قومه بما كان منهم من الكفر والجحود ، فحذف معمول الشاهدين ليعم المشهود له والمشهود عليهم .
أو يقال : الشاهدين على هذه الحالة أي حالة الرسول مع قومه ، وهو الذي اختاره الأستاذ الإمام . قال : ومن المعروف في الفقه أن ; لأن الفصل بين الخصمين يكون بشهادتهما ، ولا تصح الشهادة إلا من العارف بالمشهود به معرفة صحيحة ، وقد كان الحواريون كذلك كما علم من إقرارهم بالإيمان والاتباع . الشاهدين بمنزلة الحاكم
ومكروا ومكر الله أي ومكر أولئك الذين أحس عيسى منهم الكفر به ، فحاولوا قتله وأبطل الله مكرهم فلم ينجحوا فيه ، وعبر عن ذلك بالمكر على طريق المشاكلة ، كذا قال الجمهور ، وأقرهم الأستاذ الإمام . ولكن ورد في سورة الأعراف إضافة المكر إلى الله - تعالى - من غير مقابلة بمكر الناس . قال : أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون [ 7 : 99 ] والمكر في الأصل : التدبير الخفي المفضي بالممكور به إلى ما لا يحتسب ، ولما كان الغالب أن يكون ذلك في السوء لأن من يدبر للإنسان ما يسره وينفعه لا يكاد يحتاج إلى إخفاء تدبيره ، غلب استعمال المكر في التدبير السيئ وإن كان في المكر الحسن والسيئ جميعا قال - تعالى - : استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله [ 35 : 43 ] ووجه الحاجة إلى المكر الحسن أن من الناس من إذا علم بما يدبر له من الخير أفسد على الفاعل تدبيره لجهله فيحتاج مربيه أو متولي شئونه إلى أن يحتال عليه ويمكر به ليوصله إلى ما لا يصح أن يعرفه قبل الوصول ; إذ يوجد في الماكرين الأشرار والأخيار والله خير الماكرين فإن تدبيره الذي يخفى على عباده إنما يكون لإقامة سننه وإتمام حكمه ، وكلها خير في نفسها وإن قصر كثير من الناس في الاستفادة منها بجهلهم وسوء اختيارهم .
[ ص: 260 ] وقال الأستاذ في تفسير : خير الماكرين بناء على أن المكر في نفسه شر : أي إن كان في الخير مكر ، فمكره - سبحانه - وتعالى موجه إلى الخير ومكرهم هو الموجه إلى الشر .