افتتح الآية بذكر الإيمان وختمها بالإسلام الذي هو في كماله ثمرته وغايته وهذا هو الإسلام الديني الذي كان عليه جميع الأنبياء ; ولذلك قفى عليه بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=85nindex.php?page=treesubj&link=28974_28639ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه لأن الدين إذا لم يكن هو الإسلام الذي بينا معناه آنفا فما هو إلا رسوم وتقاليد يتخذها القوم رابطة للجنسية ، وآلة للعصبية ووسيلة للمنافع الدنيوية ، وذلك مما يزيد القلوب فسادا ، والأرواح إظلاما . فلا يزيد الناس في الدنيا إلا عدوانا ، وفي الآخرة إلا خسرانا ولذلك قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=85nindex.php?page=treesubj&link=28974وهو في الآخرة من الخاسرين أي أنه يكون هنالك خاسرا للنعيم المقيم في جوار الرب الرحيم ، لأنه خسر نفسه إذ لم يزكها بالإسلام لله ، وإخلاص السريرة له جل علاه .
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=53هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 7 : 53 ] في الدين ويزعمون أنه مناط النجاة ووسيلة الفوز والسعادة ; إذ يهوون أن يسعدوا بغيرهم من الأنبياء والأولياء وإن خسروا أنفسهم بسلوك سبل الشقاء
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=14قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين [ 39 : 14 - 15 ] ولم أر أحدا من المفسرين نبه في هذا المقام على أن الأصل في خسران الآخرة
[ ص: 295 ] هو خسران النفس ، ولا نبه إليه الأستاذ الإمام ، بل لم يقل في هذه الآية شيئا لظهور معناها .
وقد أورد الإمام
الرازي هاهنا إشكالا وأجاب عنه قال : واعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن
nindex.php?page=treesubj&link=28649الإيمان هو الإسلام ، وإذ لو كان الإيمان غير الإسلام لوجب ألا يكون الإيمان مقبولا لقوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=85ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه إلا أن ظاهر قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=14قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا [ 49 : 14 ] يقتضي كون الإسلام مغايرا للإيمان ووجه التوفيق بينهما أن تحمل الآية الأولى على العرف الشرعي والآية الثانية على الوضع اللغوي اهـ . كلامه ، وهذا الجواب مبهم وقد أراد بالآية الأولى الآية التي تفسرها وبالثانية
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=14قالت الأعراب والمعنى أن أولئك الأعراب الذين نزلت فيهم الآية لم يسلموا الإسلام الشرعي وإنما انقادوا لأهله في الظاهر وهو يقتضي اتحاد الإيمان والإسلام ، وقال في تفسير هذه الثانية من سورة الحجرات ما نصه :
( المسألة الرابعة )
nindex.php?page=treesubj&link=28649المؤمن والمسلم واحد عند أهل السنة ، فكيف يفهم ذلك مع هذا ؟ نقول : بين العام والخاص فرق ، فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب ، وقد يحصل باللسان ، والإسلام أعم لكن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص ولا يكون أمرا آخر غيره . مثاله : الحيوان أعم من الإنسان لكن الحيوان في صورة الإنسان ليس أمرا ينفك عن الإنسان ولا يجوز أن يكون ذلك الحيوان حيوانا ولا يكون إنسانا فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود ، فكذلك المؤمن والمسلم ، وسنبين ذلك في تفسير قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=35فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين [ 51 : 35 - 36 ] .
وقال في تفسير الآية الثانية من هاتين ما نصه : " والدلالة على أن
nindex.php?page=treesubj&link=28649المسلم بمعنى المؤمن ظاهرة ، والحق أن المسلم أعم من المؤمن وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه . فإذا سمي المؤمن مسلما لا يدل على اتحاد مفهوميهما فكأنه - تعالى - قال : أخرجنا المؤمنين فما وجدنا الأعم منهم إلا بيتا من المسلمين ، ويلزم من هذا ألا يكون هناك غيرهم من المؤمنين . وهذا كما لو قال قائل لغيره : من في البيت من الناس ؟ فيقول له ما في البيت من الحيوانات أحد غير زيد فيكون مخبرا له بخلو البيت عن كل إنسان غير زيد " اهـ .
أقول : وأنت ترى أن في كلامه اضطرابا وسببه تزاحم الاصطلاحات الكلامية والإطلاقات اللغوية في ذهنه . والصواب أن مفهومي الإسلام والإيمان في اللغة متباينان فالإسلام : الدخول في السلم وهو يطلق على ضد الحرب وعلى السلامة والخلوص وعلى الانقياد كما تقدم في أوائل السورة ، والإيمان : التصديق ويكون بالقلب كأن يقول امرؤ قولا فتعتقد صدقه . ويكون باللسان كأن نقول له صدقت ، وقد أطلق كل من الإيمان والإسلام
[ ص: 296 ] في القرآن على إيمان خاص جعل هو المنجي عند الله - تعالى - وإسلام خاص هو دينه المقبول عنده . أما الأول : فهو
nindex.php?page=treesubj&link=28647التصديق اليقيني بوحدانية الله وكماله وبالوحي والرسل وباليوم الآخر بحيث يكون له السلطان على الإرادة والوجدان فيترتب عليه العمل الصالح ; ولذلك قال بعد نفي دخول الإيمان في قلوب أولئك الأعراب :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=15إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون [ 49 : 15 ] وأما الثاني : فهو
nindex.php?page=treesubj&link=28678الإخلاص له - تعالى - في التوحيد والعبادة والانقياد لما هدى إليه على ألسنة رسله . وهو بهذا المعنى دين جميع النبيين الذين أرسلهم لهداية عباده . فالإيمان والإسلام على هذا يتواردان على حقيقة واحدة يتناولها كل واحد منهما باعتبار ; ولذلك عدا شيئا واحدا في الآيات التي ذكرت آنفا وفي قوله بعدما ذكر عن إيمان الأعراب وإسلامهم في ( 49 : 15 ) ثم بيان حقيقة الإيمان الصادق
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=16قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الأرض والله بكل شيء عليم يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين [ 49 : 16 - 17 ] فهذا هو الإيمان الصادق والإسلام الصحيح وهما المطلوبان لأجل السعادة .
وقد يطلق كل من الإيمان والإسلام على ما يكون منهما ظاهرا سواء كان ذلك عن يقين أو عن جهل أو نفاق . فمن الأول الشق الأول من قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=62إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم [ 2 : 62 ] الآية فالمراد بالذين آمنوا في أول الآية الذين صدقوا بهذا الدين في الظاهر وقوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=126من آمن منهم بالله إلخ هو الإيمان الحقيقي الذي عليه مدار النجاة وقد تقدم شرحه آنفا . ومن الثاني قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=14ولكن قولوا أسلمنا أي دخلنا في السلم الذي هو مسالمة المؤمنين بعد أن كنا حربا له ، وليس معناه الإخلاص والانقياد مع الإذعان وإلا لما نفى إيمان القلب . هذا هو التحقيق في المسألة ولله الحمد .
أما إطلاق الإسلام بمعنى ما عليه هؤلاء الأقوام المعروفون بالمسلمين من عقائد وتقاليد وأعمال فهو اصطلاح حادث مبني على قاعدة " الدين ما عليه المتدينون " فالبوذية ما عليه الناس المعرفون
بالبوذية ،
واليهودية ما عليه الشعب الذي يطلق عليه اسم
اليهود ،
والنصرانية ما عليه الأقوام الذين يقولون إنا
نصارى وهكذا . وهذا هو الدين بمعنى الجنسية وقد يكون له أصل سماوي أو وضعي فيطرأ عليه التغيير والتبديل حتى يكون بعيدا عن أصله في قواعده ومقاصده ، وتكون العبرة بما عليه أهله لا بذلك الأصل المجهول أو المعلوم ، وتحول دين
أهل الكتاب إلى جنسية بهذا المعنى هو الذي صد
أهل الكتاب عن اتباع النبي - عليه الصلاة والسلام - على ما جاء به من بيان روح دين الله الذي كان عليه جميع الأنبياء على اختلاف
[ ص: 297 ] شرائعهم في الفروع وهو الإسلام ، فالإسلام معنى بينه القرآن فمن اتبعه كان على دين الله المرضي ، ومن خالفه كان باغيا لغير دين الله ، وليس هو من معنى الجنسية المعروفة الآن التي تختلف باختلاف ما يحدث لأهلها من التقاليد ، فالإسلام الحقيقي مباين للإسلام العرفي ; لذلك جرينا في هذا التفسير على إنكار جعل الإسلام جنسية عرفية مع الغفلة عن كونه هداية إلهية . نعم إنه لو أقيم على أصله واستتبع مع ذلك رابطة الجنسية لم تكن هذه الرابطة إلا رابطة خير لأهلها غير ضارة بغيرهم لبنائها على قواعد العدل والفضل والرحمة والإحسان ، ولكن جعل الجنسية هو الأصل مفسد للدين الذي هو مناط سعادة الدارين .
افْتَتَحَ الْآيَةَ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ وَخَتَمَهَا بِالْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ فِي كَمَالِهِ ثَمَرَتُهُ وَغَايَتُهُ وَهَذَا هُوَ الْإِسْلَامُ الدِّينِيُّ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ ; وَلِذَلِكَ قَفَّى عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=85nindex.php?page=treesubj&link=28974_28639وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ لِأَنَّ الدِّينَ إِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ الْإِسْلَامَ الَّذِي بَيَّنَّا مَعْنَاهُ آنِفًا فَمَا هُوَ إِلَّا رُسُومٌ وَتَقَالِيدُ يَتَّخِذُهَا الْقَوْمُ رَابِطَةً لِلْجِنْسِيَّةِ ، وَآلَةً لِلْعَصَبِيَّةِ وَوَسِيلَةً لِلْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، وَذَلِكَ مِمَّا يَزِيدُ الْقُلُوبَ فَسَادًا ، وَالْأَرْوَاحَ إِظْلَامًا . فَلَا يَزِيدُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا عُدْوَانًا ، وَفِي الْآخِرَةِ إِلَّا خُسْرَانًا وَلِذَلِكَ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=85nindex.php?page=treesubj&link=28974وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ أَيْ أَنَّهُ يَكُونُ هُنَالِكَ خَاسِرًا لِلنَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي جِوَارِ الرَّبِّ الرَّحِيمِ ، لِأَنَّهُ خَسِرَ نَفْسَهُ إِذْ لَمْ يُزَكِّهَا بِالْإِسْلَامِ لِلَّهِ ، وَإِخْلَاصِ السَّرِيرَةِ لَهُ جَلَّ عُلَاهُ .
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=53هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [ 7 : 53 ] فِي الدِّينِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ مَنَاطُ النَّجَاةِ وَوَسِيلَةُ الْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ ; إِذْ يَهْوَوْنَ أَنْ يَسْعَدُوا بِغَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَإِنْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِسُلُوكِ سُبُلِ الشَّقَاءِ
nindex.php?page=tafseer&surano=39&ayano=14قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [ 39 : 14 - 15 ] وَلَمْ أَرَ أَحَدًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ نَبَّهَ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي خُسْرَانِ الْآخِرَةِ
[ ص: 295 ] هُوَ خُسْرَانُ النَّفْسِ ، وَلَا نَبَّهَ إِلَيْهِ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ، بَلْ لَمْ يَقُلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ شَيْئًا لِظُهُورِ مَعْنَاهَا .
وَقَدْ أَوْرَدَ الْإِمَامُ
الرَّازِيُّ هَاهُنَا إِشْكَالًا وَأَجَابَ عَنْهُ قَالَ : وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ هَذِهِ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28649الْإِيمَانَ هُوَ الْإِسْلَامُ ، وَإِذْ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ غَيْرَ الْإِسْلَامِ لَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ الْإِيمَانُ مَقْبُولًا لِقَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=85وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ إِلَّا أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=14قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [ 49 : 14 ] يَقْتَضِي كَوْنَ الْإِسْلَامِ مُغَايِرًا لِلْإِيمَانِ وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنْ تُحْمَلَ الْآيَةُ الْأُولَى عَلَى الْعُرْفِ الشَّرْعِيِّ وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ عَلَى الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ اهـ . كَلَامُهُ ، وَهَذَا الْجَوَابُ مُبْهَمٌ وَقَدْ أَرَادَ بِالْآيَةِ الْأُولَى الْآيَةَ الَّتِي تُفَسِّرُهَا وَبِالثَّانِيَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=14قَالَتِ الْأَعْرَابُ وَالْمَعْنَى أَنَّ أُولَئِكَ الْأَعْرَابَ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَةُ لَمْ يُسْلِمُوا الْإِسْلَامَ الشَّرْعِيَّ وَإِنَّمَا انْقَادُوا لِأَهْلِهِ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ يَقْتَضِي اتِّحَادَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ ، وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الثَّانِيَةِ مِنْ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ مَا نَصُّهُ :
( الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ )
nindex.php?page=treesubj&link=28649الْمُؤْمِنُ وَالْمُسْلِمُ وَاحِدٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ ، فَكَيْفَ يُفْهَمُ ذَلِكَ مَعَ هَذَا ؟ نَقُولُ : بَيْنَ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ فَرْقٌ ، فَالْإِيمَانُ لَا يَحْصُلُ إِلَّا بِالْقَلْبِ ، وَقَدْ يَحْصُلُ بِاللِّسَانِ ، وَالْإِسْلَامُ أَعَمُّ لَكِنَّ الْعَامَّ فِي صُورَةِ الْخَاصِّ مُتَّحِدٌ مَعَ الْخَاصِّ وَلَا يَكُونُ أَمْرًا آخَرَ غَيْرَهُ . مِثَالُهُ : الْحَيَوَانُ أَعَمُّ مِنَ الْإِنْسَانِ لَكِنَّ الْحَيَوَانَ فِي صُورَةِ الْإِنْسَانِ لَيْسَ أَمْرًا يَنْفَكُّ عَنِ الْإِنْسَانِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْحَيَوَانُ حَيَوَانًا وَلَا يَكُونُ إِنْسَانًا فَالْعَامُّ وَالْخَاصُّ مُخْتَلِفَانِ فِي الْعُمُومِ مُتَّحِدَانِ فِي الْوُجُودِ ، فَكَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ وَالْمُسْلِمُ ، وَسَنُبَيِّنُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=35فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [ 51 : 35 - 36 ] .
وَقَالَ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ هَاتَيْنِ مَا نَصُّهُ : " وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=28649الْمُسْلِمَ بِمَعْنَى الْمُؤْمِنِ ظَاهِرَةٌ ، وَالْحَقُّ أَنَّ الْمُسْلِمَ أَعَمُّ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَإِطْلَاقُ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ لَا مَانِعَ مِنْهُ . فَإِذَا سُمِّيَ الْمُؤْمِنُ مُسْلِمًا لَا يَدُلُّ عَلَى اتِّحَادِ مَفْهُومَيْهِمَا فَكَأَنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ : أَخْرَجْنَا الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا الْأَعَمَّ مِنْهُمْ إِلَّا بَيْتًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَلَّا يَكُونَ هُنَاكَ غَيْرَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . وَهَذَا كَمَا لَوْ قَالَ قَائِلٌ لِغَيْرِهِ : مَنْ فِي الْبَيْتِ مِنَ النَّاسِ ؟ فَيَقُولُ لَهُ مَا فِي الْبَيْتِ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ أَحَدٌ غَيْرُ زَيْدٍ فَيَكُونُ مُخْبِرًا لَهُ بِخُلُوِّ الْبَيْتِ عَنْ كُلِّ إِنْسَانٍ غَيْرِ زَيْدٍ " اهـ .
أَقُولُ : وَأَنْتَ تَرَى أَنَّ فِي كَلَامِهِ اضْطِرَابًا وَسَبَبُهُ تَزَاحُمُ الِاصْطِلَاحَاتِ الْكَلَامِيَّةِ وَالْإِطْلَاقَاتِ اللُّغَوِيَّةِ فِي ذِهْنِهِ . وَالصَّوَابُ أَنَّ مَفْهُومَيِ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ فِي اللُّغَةِ مُتَبَايِنَانِ فَالْإِسْلَامُ : الدُّخُولُ فِي السِّلْمِ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى ضِدِّ الْحَرْبِ وَعَلَى السَّلَامَةِ وَالْخُلُوصِ وَعَلَى الِانْقِيَادِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ ، وَالْإِيمَانُ : التَّصْدِيقُ وَيَكُونُ بِالْقَلْبِ كَأَنْ يَقُولَ امْرُؤٌ قَوْلًا فَتَعْتَقِدَ صِدْقَهُ . وَيَكُونُ بِاللِّسَانِ كَأَنَّ نَقُولَ لَهُ صَدَقْتَ ، وَقَدْ أُطْلِقَ كُلٌّ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ
[ ص: 296 ] فِي الْقُرْآنِ عَلَى إِيمَانٍ خَاصٍّ جُعِلَ هُوَ الْمُنْجِي عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَإِسْلَامٍ خَاصٍّ هُوَ دِينُهُ الْمَقْبُولُ عِنْدَهُ . أَمَّا الْأَوَّلُ : فَهُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=28647التَّصْدِيقُ الْيَقِينِيُّ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَكَمَالِهِ وَبِالْوَحْيِ وَالرُّسُلِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ بِحَيْثُ يَكُونُ لَهُ السُّلْطَانُ عَلَى الْإِرَادَةِ وَالْوِجْدَانِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ ; وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ نَفْيِ دُخُولِ الْإِيمَانِ فِي قُلُوبِ أُولَئِكَ الْأَعْرَابِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=15إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [ 49 : 15 ] وَأَمَّا الثَّانِي : فَهُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=28678الْإِخْلَاصُ لَهُ - تَعَالَى - فِي التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَةِ وَالِانْقِيَادِ لِمَا هَدَى إِلَيْهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ . وَهُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى دِينُ جَمِيعِ النَّبِيِّينَ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ لِهِدَايَةِ عِبَادِهِ . فَالْإِيمَانُ وَالْإِسْلَامُ عَلَى هَذَا يَتَوَارَدَانِ عَلَى حَقِيقَةٍ وَاحِدَةٍ يَتَنَاوَلُهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارٍ ; وَلِذَلِكَ عُدَّا شَيْئًا وَاحِدًا فِي الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ آنِفًا وَفِي قَوْلِهِ بَعْدَمَا ذَكَرَ عَنِ إِيمَانِ الْأَعْرَابِ وَإِسْلَامِهِمْ فِي ( 49 : 15 ) ثُمَّ بَيَانِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ الصَّادِقِ
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=16قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [ 49 : 16 - 17 ] فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الصَّادِقُ وَالْإِسْلَامُ الصَّحِيحُ وَهُمَا الْمَطْلُوبَانِ لِأَجْلِ السَّعَادَةِ .
وَقَدْ يُطْلَقُ كُلٌّ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ عَلَى مَا يَكُونُ مِنْهُمَا ظَاهِرًا سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ عَنْ يَقِينٍ أَوْ عَنْ جَهْلٍ أَوْ نِفَاقٍ . فَمِنَ الْأَوَّلِ الشِّقُّ الْأَوَّلُ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=62إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [ 2 : 62 ] الْآيَةَ فَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ آمَنُوا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِهَذَا الدِّينِ فِي الظَّاهِرِ وَقَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=126مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ إِلَخْ هُوَ الْإِيمَانُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي عَلَيْهِ مَدَارُ النَّجَاةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُهُ آنِفًا . وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=49&ayano=14وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا أَيْ دَخَلْنَا فِي السِّلْمِ الَّذِي هُوَ مُسَالَمَةُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنْ كُنَّا حَرْبًا لَهُ ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ الْإِخْلَاصَ وَالِانْقِيَادَ مَعَ الْإِذْعَانِ وَإِلَّا لَمَا نَفَى إِيمَانَ الْقَلْبِ . هَذَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ .
أَمَّا إِطْلَاقُ الْإِسْلَامِ بِمَعْنَى مَا عَلَيْهِ هَؤُلَاءِ الْأَقْوَامُ الْمَعْرُوفُونَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ عَقَائِدَ وَتَقَالِيدَ وَأَعْمَالٍ فَهُوَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ مَبْنِيٌّ عَلَى قَاعِدَةِ " الدِّينُ مَا عَلَيْهِ الْمُتَدَيِّنُونَ " فَالْبُوذِيَّةُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ الْمَعْرُفُونَ
بِالْبُوذِيَّةِ ،
وَالْيَهُودِيَّةُ مَا عَلَيْهِ الشَّعْبُ الَّذِي يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ
الْيَهُودِ ،
وَالنَّصْرَانِيَّةُ مَا عَلَيْهِ الْأَقْوَامُ الَّذِينَ يَقُولُونَ إِنَّا
نَصَارَى وَهَكَذَا . وَهَذَا هُوَ الدِّينُ بِمَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ وَقَدْ يَكُونُ لَهُ أَصْلٌ سَمَاوِيٌّ أَوْ وَضْعِيٌّ فَيَطْرَأُ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ حَتَّى يَكُونَ بَعِيدًا عَنْ أَصْلِهِ فِي قَوَاعِدِهِ وَمَقَاصِدِهِ ، وَتَكُونُ الْعِبْرَةُ بِمَا عَلَيْهِ أَهْلُهُ لَا بِذَلِكَ الْأَصْلِ الْمَجْهُولِ أَوِ الْمَعْلُومِ ، وَتَحَوُّلُ دِينِ
أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَى جِنْسِيَّةٍ بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي صَدَّ
أَهْلَ الْكِتَابِ عَنِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ بَيَانِ رُوحِ دِينِ اللَّهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى اخْتِلَافِ
[ ص: 297 ] شَرَائِعِهِمْ فِي الْفُرُوعِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ ، فَالْإِسْلَامُ مَعْنًى بَيَّنَهُ الْقُرْآنُ فَمَنِ اتَّبَعَهُ كَانَ عَلَى دِينِ اللَّهِ الْمَرْضِيِّ ، وَمَنْ خَالَفَهُ كَانَ بَاغِيًا لِغَيْرِ دِينِ اللَّهِ ، وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَعْنَى الْجِنْسِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ الْآنَ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَا يَحْدُثُ لِأَهْلِهَا مِنَ التَّقَالِيدِ ، فَالْإِسْلَامُ الْحَقِيقِيُّ مُبَايِنٌ لِلْإِسْلَامِ الْعُرْفِيِّ ; لِذَلِكَ جَرَيْنَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ عَلَى إِنْكَارِ جَعْلِ الْإِسْلَامِ جِنْسِيَّةً عُرْفِيَّةً مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ كَوْنِهِ هِدَايَةً إِلَهِيَّةً . نَعَمْ إِنَّهُ لَوْ أُقِيمَ عَلَى أَصْلِهِ وَاسْتَتْبَعَ مَعَ ذَلِكَ رَابِطَةَ الْجِنْسِيَّةِ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الرَّابِطَةُ إِلَّا رَابِطَةَ خَيْرٍ لِأَهْلِهَا غَيْرَ ضَارَّةٍ بِغَيْرِهِمْ لِبِنَائِهَا عَلَى قَوَاعِدِ الْعَدْلِ وَالْفَضْلِ وَالرَّحْمَةِ وَالْإِحْسَانِ ، وَلَكِنَّ جَعْلَ الْجِنْسِيَّةِ هُوَ الْأَصْلُ مُفْسِدٌ لِلدِّينِ الَّذِي هُوَ مَنَاطُ سَعَادَةِ الدَّارَيْنِ .