ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون )
قدمنا أن الكلام من أول السورة في ، وذكرنا منهم ثلاث فرق - فرقتان لهما فيه هدى : القرآن وأقسام الناس بإزائه
( إحداهما ) : المتقون وبين حالهم بقوله : ( الذين يؤمنون بالغيب ) ( 2 : 3 ) إلخ ، ومنهم الذين كانوا يدعون الحنيفيين ، والمنصفون من أهل الكتاب الذين كانوا ينتظرون إشراق نور الحق ليهتدوا به كما تقدم .
[ ص: 125 ] ( الثانية ) : هي المذكورة في قوله تعالى : ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) ( 2 : 4 ) إلخ ، وهم كل من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب وغيرهم على التحقيق .
وبينا أنه يوجد بإزاء هاتين الطائفتين : طائفتان أخريان لا ترجى هدايتهما بالقرآن
الأولى منهما : هي المشروح حالها في قوله تعالى : ( إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) ( 2 : 6 ) إلخ . وهي كما قدمنا تنقسم إلى قسمين : جاحدين لا يسمعون ، ومعاندين يعرفون الحق ولا يذعنون .
وهذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها الآن هي المبينة لحال ، وهي فرقة من الناس توجد في كل آن وفي كل عصر ، وليست الآيات كما قيل في أولئك النفر من المنافقين الذين كانوا في عصر التنزيل ، ولذلك قال تعالى في بيان حالهم : ( الفرقة الرابعة ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر ) ( 2 : 8 ) ولم يقل عنهم إنهم يقولون مع ذلك : " وآمنا بك يا محمد " وما كان القرآن ليعتني بأولئك النفر - الذين لم يلبثوا أن انقرضوا - كل هذه العناية ، ويطيل في بيان حالهم أكثر مما أطال في الأصناف الثلاثة الذين هم سائر الناس .
نعم : إن الآيات على عمومها تتناول من كان منهم في عصر التأويل تناولا أوليا ، وتصف حالهم وصفا مطابقا ، وهي مع ذلك عبرة عامة شاملة لمن مضى ولمن يجيء من هذا الصنف إلى يوم القيامة ، وقد كان ويكون من اليهود والنصارى والصابئين والمجوس ومن كل طائفة تدعي أنها على دين ، ولم يحك عنهم دعوى الإيمان بالأنبياء والأعمال الصالحة - مع أن منهم الذين يدعون ذلك - لأن الإيمان باليوم الآخر يتضمن ذلك ، فهو إنما يعرف من قبل الأنبياء ، وهذا من ضروب إيجاز القرآن التي بلغت حد الإعجاز .
قد يقال : كان في أولئك القوم من كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر كمنافقي اليهود ، فلم كذبهم ونفى عنهم الإيمان نفيا مطلقا مؤكدا بدخول الباء في خبر " ما " فقال : ( وما هم بمؤمنين ) أي بداخلين في جماعة المؤمنين الصادقين ألبتة ، وهو أبلغ من نفي فعل الإيمان المطابق للفظهم والمقيد بالإيمان بالله واليوم الآخر ؟ والجواب : أن اعتقادهم التقليدي الضعيف لم يكن له أثر في أخلاقهم ولا في أعمالهم ، فلو حصل ما في صدورهم ومحص ما في قلوبهم ، وعرفت مناشئ الأعمال من نفوسهم ، لوجد أن ما كان لهم من عمل صالح كصلاة وصدقة فإنما مبعثه رئاء الناس وحب السمعة ، وهم من وراء ذلك منغمسون في الشرور ، كالإفساد والكذب والغش والخيانة والطمع وغير ذلك من الرذائل التي حكاها عنهم الكتاب ونقلها رواة السنة ، وهذه الأعمال تدل على أنهم لا يؤمنون بالله كما يحب ويرضى أن يؤمن به ، وهو أن يشعر المؤمن بعظيم سلطانه ، ويعلم أن الله سبحانه مطلع على سره وإعلانه ؛ لأنه مهيمن على [ ص: 126 ] السرائر ، وعالم بما في الضمائر ، فيرضيه بظاهره وباطنه . بل كانوا يكتفون ببعض ظواهر العبادات يظنون أنهم يرضون الله تعالى بذلك ، ولذلك قال فيهم :