ثم بين لنا - عز وجل - ما به يتحقق ذلك الأمر والنهي ، فقال : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا حبل الله : هو القرآن ، كما ورد في الحديث الصحيح عن ، وروى ابن مسعود ابن أبي شيبة عن وابن جرير مرفوعا : " أبي سعيد الخدري " علم عليه في الجامع الصغير بالحسن . وروى كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض الديلمي من حديث : " زيد بن أرقم " وقيل : هو الطاعة والجماعة وروي عن حبل الله هو القرآن ، وقيل : إنه الإسلام ، وروي عن ابن مسعود ، وقالوا : إن العبارة استعارة تمثيلية ، شبهت فيها حالة المسلمين في اهتدائهم بكتاب الله أو في اجتماعهم وتعاضدهم وتكاتفهم بحالة استمساك المتدلي من مكان عال بحبل متين يأمن معه من السقوط . ابن عباس
وصور الأستاذ الإمام التمثيل بما أظهر من هذا ، قال ما معناه : الأشبه أن تكون العبارة تمثيلا ، كأن الدين في سلطانه على النفوس واستيلائه على الإرادات وما يترتب على ذلك من جريان الأعمال على حسب هديه حبل متين يأخذ به الآخذ فيأمن السقوط ، كأن الآخذين به قوم على نشز من الأرض يخشى عليهم السقوط منه . فأخذوا بحبل موثق جمعوا به قوتهم فامتنعوا من السقوط .
وأقول : إن المختار هو ما ورد في الحديث المرفوع من تفسير حبل الله بكتابه ، ومن اعتصم به كان آخذا بالإسلام . ولا يظهر تفسيره بالجماعة والاجتماع ، وإنما الاجتماع هو نفس الاعتصام ، فهو يوجب علينا أن نجعل أن اجتماعنا ووحدتنا بكتابه ، عليه نجتمع ، وبه نتحد ، لا بجنسيات نتبعها ، ولا بمذاهب نبتدعها ، ولا بمواضعات نضعها ، ولا بسياسات نخترعها ، ثم نهانا عن التفرق والانفصام بعد هذا الاجتماع والاعتصام ، لما في التفرق من زوال الوحدة التي هي معقد العزة والقوة ، وبالعزة يعتز الحق فيعلو في [ ص: 18 ] العالمين ، وبالقوة يحفظ هو وأهله من هجمات المواثبين وكيد الكائدين ، فهذا الأمر والنهي في معنى الأمر والنهي في قوله - تعالى - : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله [ 6 : 153 ] فحبل الله هو صراطه وسبيله ، وما أشرنا إليه هنا من بيان أنواع التفرق هو السبل التي نهي عن اتباعها في تلك الآية ، وهي قد نزلت قبل هذه التي نفسرها ; لأنها في سورة الأنعام وهي مكية ، وسورة آل عمران مدنية ، فكأنه قال : ولا تفرقوا باتباع السبل غير سبيل الله الذي هو كتابه . فمن تلك السبل المفرقة : إحداث المذاهب والشيع في الدين كما قال : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء [ 6 : 159 ] ومنها عصبية الجنسية الجاهلية وهي التي نزلت الآية التي نفسرها وما معها فيها ، لما كان بين الأوس والخزرج ما كان كما تقدم ، وورد في النهي عنها أحاديث كثيرة صحاح وحسان كقوله - صلى الله عليه وسلم - : الحرم ، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية ، ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهريق دمه رواه أبغض الناس إلى الله ثلاثة : ملحد في من حديث البخاري ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ابن عباس رواه ليس منا من دعا إلى عصبية أبو داود من حديث . جبير بن مطعم
وقد اعتصم في هذا العصر أهل أوربا بالعصبية الجنسية كما كانت العرب في الجاهلية ، فسرى سم ذلك إلى كثير من متفرنجة المسلمين ، فحاول بعضهم أن يجعلوا في المسلمين جنسيات وطنية لتعذر الجنسية النسبية ، ويوجد في مصر من يدعو إلى هذه العصبية الجاهلية مخادعين للناس بأنهم بذلك ينهضون بالوطن ويعلون شأنه ، وليس الأمر كذلك فإن حياة الوطن وارتقاءه باتحاد كل المقيمين فيه على إحيائه ، لا في تفرقهم ووقوع العداوة والبغضاء بينهم ولا سيما المتحدين منهم في اللغة والدين أو أحدهما ، فإن هذا من مقدمات الخراب والدمار ، لا من وسائل التقدم والعمران ، فالإسلام يأمر باتحاد اتفاق كل قوم تضمهم أرض وتحكمهم الشريعة على الخير والمصلحة فيها - وإن اختلفت أديانهم وأجناسهم - ويأمر مع ذلك باتفاق أوسع ، وهو الاعتصام بحبل الله بين جميع الأقوام والأجناس ، لتتحقق بذلك الأخوة في الله ; ولذلك قال بعد الأمر بالاعتصام والاجتماع والنهي عن التفرق :