ثم إنه بعد هذا البيان المنبه لهم إلى استعدادهم ضرب لهم هذا المثل في غيرهم كما ضرب لهم المثل قبل ذلك في أنفسهم بتمنيهم الموت فقال : وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين ( كأين ) بمعنى " كم " الخبرية ، ومعناها أن ما دخلت عليه كثير ، وفيها لغتان فصيحتان مشهورتان " كائن " بوزن فاعل مبنية على السكون ، وبها قرأ ابن كثير ، و " كأين " بفتح الهمزة وتشديد الياء المكسورة وسكون النون - التي قالوا : إن أصلها التنوين أثبت له صورة في الخط كما ينطق به في هذه الكلمة الخاصة - وبها قرأ الباقون . وقالوا : إن أصلها " أي " الاستفهامية دخلت عليها كاف التشبيه فصارت كلمة مستقلة لا معنى فيها للتشبيه ولا للاستفهام .
[ ص: 141 ] والربيون قال في الكشاف : هم الربانيون " وقرئ بالحركات الثلاث ، فالفتح على القياس والضم والكسر من تغييرات النسب " وقد تقدم ذكر الربانيين في آية 79 من هذه السورة ، وهو جمع رباني نسبة إلى الرب ، وزيادة الألف والنون فيها كزيادتها في جسماني . وقيل غير ذلك ، وقول الكشاف " من تغييرات النسب " معناه : أن العرب قد تغير الاسم المنسوب ، كما قالوا في النسبة إلى البصرة بصري بكسر الباء ، وإلى الدهر دهري بضم الدال . وقال الفراء : الربيون الأولون . وقال : هم الجماعات الكثيرة وأحدها ربي ، قال الزجاج ابن قتيبة : أصله من الربة وهي الجماعة ، ويروى مثله عن . وقال ابن عباس ابن زيد : الربانيون الأئمة والولاة ، والربيون الرعية وهم المنتسبون إلى الرب ، والأول هو الظاهر المختار ، وتقدم معنى الوهن والضعف . والاستكانة : ضرب من الخضوع هو عبارة عن سكون الإنسان لخصمه ليفعل به ما يريد .
والمعنى : أن كثيرا من النبيين الذين خلوا قد قاتل معهم كثير من المؤمنين بهم المنتسبين إلى الرب تعالى في وجهة قلوبهم وفي أعمالهم ، المعتقدين أن النبيين والمرسلين هداة ومعلمون لا أرباب معبودون ، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله أي ما ضعف مجموعهم بما أصاب بعضهم من الجرح وبعضهم من القتل ، وإن كان المقتول هو النبي نفسه ; لأنهم يقاتلون في سبيل الله وهو ربهم لا في سبيل شخص نبيهم ، وإنما حظهم من نبيهم تبليغه عن ربهم وبيانه لهدايته وأحكامه وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين [ 18 : 56 ] وما ضعفوا عن جهادهم ولا استكانوا ولا ولوا بالانقلاب على أعقابهم ، بل ثبتوا بعد قتل نبيهم كما ثبتوا معه في حياته ; لأن علة الثبات في الحالين واحدة ، وهي كون الجهاد في سبيل الله ، أي في الطريق التي يرضاها الله كحفظ الحق وحمايته وتقرير العدل وإقامته ، وما يتبع ذلك ويلزمه . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب " قتل معه " ; ولذلك رسمت الكلمة في المصحف الإمام بغير ألف لتوافق القراءتين ، أي استشهدوا في القتال معه أو قتلوا كما قتل هو ، وزعم بعضهم أنه لم يقتل نبي في الحرب ، وهو نفي غير مسلم لا سيما في النبيين غير المرسلين ، ومن ذا يتجرأ على الإحاطة بالرسل علما والله يقول لنبيه : ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك [ 4 : 164 ] ومن التفسير المأثور قول قتادة : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله ، وما عجزوا وما تضعضعوا لقتل نبيهم ، وما استكانوا أي ما ارتدوا عن نصرتهم ولا عن دينهم . وقال : فما وهنوا لقتل النبي وما ضعفوا عن عدوهم ، وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله للناس وعن دينهم ، وذلك هو الصبر ابن إسحاق والله يحب الصابرين اهـ . وقد تقدم معنى حب الله للناس في أوائل هذه السورة ، أي وإذا كان يحب الصابرين أمثالهم فعليكم أن تعتبروا بحالهم ، فإن دين الله واحد ، وسنته [ ص: 142 ] في خلقه واحدة ; ولذلك هديتم إلى السنن وأمرتم بمعرفة عاقبة من سبقكم من الأمم ، فاقتدوا بعمل الصادقين الصابرين ، وقولوا مثل قول أولئك الربيين :