إذ تصعدون ولا تلوون على أحد أي صرفكم عنهم في ذلك الوقت الذي أصعدتم فيه ، أي ذهبتم وأبعدتم في الأرض منهزمين ، وهو غير الصعود الذي هو الذهاب في المرتفعات كالجبال ولا تلوون أي لا تعطفون على أحد بنجدة ولا مدافعة ، ولا تلتفتون إلى من وراءكم لشدة الدهشة التي عرتكم والذعر الذي فاجأكم والرسول يدعوكم في أخراكم أي تفعلون ذلك والرسول من ورائكم يدعوكم إليه فيمن تأخر معه منكم فكانوا ساقة الجيش - روي أنه كان يقول في دعوته : إلي عباد الله إلي عباد الله ، أنا رسول الله من يكر فله الجنة وأنتم لا تسمعون ولا تنظرون ، وكان يجب أن يكون لكم أسوة حسنة في الرسول فتقتدوا به في صبره وثباته ولكن أكثركم لم يفعل فأثابكم غما بغم أي فجازاكم الله غما بسبب الغم الذي أصاب الرسول من فشلكم وهزيمتكم أو غما متصلا بغم ، فنال العدو منكم ونلتم من أنفسكم إذ صرتم من الدهشة يضرب بعضكم بعضا وفاتتكم الغنيمة التي طمعتم فيها . قال الأستاذ الإمام : الغم هو الألم الذي يفاجئ الإنسان عند نزول المصيبة ، وأما الحزن فهو الألم الذي يكون بعد ذلك ويستمر زمنا ، أقول : والمتبادر أن الغم ألم أو ضيق في الصدر يكون من الأمر الذي يسوؤك وإن لم تتبين حقيقته أو سببه ، أو لا تدري كيف يكون المخرج منه ، فإن المادة تدل على معنى الخفاء ، يقولون : غم الشيء إذا أخفاه ، وغم عليهم الهلال لم يظهر ولم ير ، ورجل أغم الوجه : كثير شعره . . ومنه قوله - تعالى - : ثم لا يكن أمركم عليكم غمة [ 10 : 71 ] [ ص: 152 ] وفي الأساس " وإنه لفي غمة من أمره ، إذا لم يهتد للخروج منه " لكيلا تحزنوا على ما فاتكم أي لأجل ألا تحزنوا بعد هذا التأديب والتمرين على ما فاتكم من غنيمة ومنفعة ولا ما أصابكم من قرح ومصيبة فإن التربية إنما تكون بالعمل والتمرن الذي به يكمل الإيمان وترسخ الأخلاق ، قال في الكشاف : ويجوز أن يكون الضمير في فأثابكم للرسول أي فآساكم في الاغتمام وكما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرهما غمه ما نزل بكم فأثابكم غما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم لأمره ، وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله ولا على ما أصابكم من غلبة العدو . اهـ .
والله خبير بما تعملون لا يخفى عليه شيء من دقائقه وأسبابه ولا من نيتكم فيه وعاقبته فيكم ، ومن بلاغة هذه الجملة في هذا الموضع أن كل واحد من المخاطبين يتذكر عند سماعها أو تلاوتها أن الله - تعالى - مطلع على عمله ، عالم بنبيه وخواطره فيحاسب نفسه ، فإن كان مقصرا تاب من ذنبه وإن كان مشمرا ازداد نشاطا خوف الوقوع في التقصير وأن يراه الله حيث لا يرضى . قال الأستاذ الإمام : يقول فلا تعتذروا عن أنفسكم ولا تخادعوها ، فإن الخبير بأعمالكم المحيط بنفوسكم لا يخفى عليه من أمركم خافية ، وإنما المعول على علمه وخبره لا على أعذاركم وتأويلكم لأنفسكم .