ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم قال الإمام الرازي : اعلم أن الله - تعالى - لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة شرع هاهنا في ، وبين التحريض على بذل المال في الجهاد . اهـ . الوعيد الشديد لمن يبخل ببذل المال في سبيل الله
وحسبك ما علمت من وجه اتصال الآيات كلها بما قبلها .
قرأ حمزة : " تحسبن " بالمثناة الفوقية على أن الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو لكل حاسب ، وفي الكلام تقدير ، أي لا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم . وقرأ الباقون : " يحسبن " بالمثناة التحتية ، والتقدير على هذه القراءة : ولا يحسبن الذين يبخلون بكذا بخلهم خيرا لهم . أو لا يحسبن أحد ، أو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخل الذين يبخلون بكذا خيرا لهم . وإعادة الضمير على مصدر محذوف لدلالة فعله ، أو وصف منه ، عليه كثير في كلام العرب . ومنه قوله - تعالى - : اعدلوا هو أقرب للتقوى [ 5 : 8 ] أي العدل وقال الشاعر :
إذا نهى السفيه جرى إليه وخالف ، والسفيه إلى خلاف
أي إذا نهى عن السفه جرى إليه ، وكان النهي إغراء له به . وأنشد الفراء :
هم الملوك وأبناء الملوك هم والآخذون به والسادة الأول
قالوا : والآخذون به ، أي بالملك .
أخرج ، ابن جرير ، عن وابن أبي حاتم : أن الآية نزلت في أهل الكتاب الذين كتموا صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ونبوته ، فالبخل على هذا هو البخل بالعلم ، وبيان الحق . وروي عن ابن عباس الصادق ، ، وابن مسعود ، والشعبي والسدي ، وغيرهم : أنها نزلت في مانعي الزكاة . وقال الأستاذ الإمام : أكثر المفسرين على أن المراد بما آتاهم الله من فضله : المال ، وأن البخل به هو البخل بالصدقة المفروضة فيه ، وعدم التصريح بذلك من ضروب إيجاز القرآن ، فكثيرا ما يترك التصريح بالقول لأنه مفهوم من السياق ، والقرائن دالة عليه ، واللبس مأمون ، فلا يخطر ببال أحد أن الوعيد هو على البخل بجميع ما يملك الإنسان من فضل ربه عليه ، فإن الله أباح لنا الطيبات ، والزينة في نص كتابه ، والعقل يجزم أيضا بأن الله لا يكلف الناس [ ص: 212 ] بذل كل ما يكسبون ، وأن يبقوا جائعين عراة بائسين . وذهب آخرون إلى أن ذلك هو العلم ، وأن الكلام في اليهود الذين أوتوا صفات النبي - صلى الله عليه وسلم - فكتموها ، والأولى أن تبقى على عمومها ، فإن المال من فضل الله ، وكذلك العلم ، والجاه ، والناس مطالبون بشكر ذلك ، والبخل على الناس به كفر لا شكر .
قال : والحكمة في ترك النص على أن هنا هو البخل بما يجب بذله مما يتفضل الله به على المكلف ، هي أن في العموم من التأثير في النفس ما ليس للتخصيص ، وهذه السورة متأخرة في النزول ، وكانت أكثر الأحكام إذا أنزلت مقررة ، فإذا طرق سمع المؤمن هذا القول تذكر فضل الله عليه ، وأن عليه فيه حقا للناس ، وأن هذا الخطاب يذكر به ، سواء منه ما هو معلوم معين ، وما ليس بمعلوم ولا معين ، بل هو موكول إلى اجتهاده الذي يتبع عاطفة الإيمان . وإنما نفى أولا كونه خيرا ، ثم أثبت كونه شرا مع أن الثاني هو الظاهر الذي لا يمارى فيه ; لأن المانع للحق إنما يمنعه لأنه يحسب أن في منعه خيرا له لما في بقاء المال في اليد مثلا من الانتفاع به بالتمتع باللذات ، ودفع الغوائل ، والآفات ، وتوهم التمكن من قضاء الحاجات ، فإن قيل : إن التحديد كان أوضح ، وأنفى للإيهام . قلنا : إن القرآن كتاب هداية ، ووعظ يخاطب الأرواح ليجذبها إلى الخير بالعبارة التي هي أحسن تأثيرا لا ككتب الفقه ، وغيره من كتب الفنون التي تتحرى فيها التعريفات الجامعة المانعة ، وكتاب هذا شأنه لا يجري على السنن الذي لا يليق إلا بضعفاء العقول الذين فسدت فطرهم بالتعاليم الفاسدة ، يعني تلك التعاليم التي تشغل الأذهان بعبارتها الضيقة ، وأساليبها المعقدة ، فلا ينفذ إلى القلب شيء مما يعتصر منها ; ولذلك قال : وإن مثل هذه العبارة المطلقة التي تخطر في البال بذل كل ما في اليد ، وتكاد توجبه - لولا الدلائل الأخرى - تحدث في النفس أريحية للبذل تدفعها إلى بذل الواجب ، وزيادة عليه . وأقول : إن هذه العبارة الأخيرة مبنية على القول بأن المراد بما يبخل به هو المال ، فإذا جرينا على القول الآخر المختار وهو أنه يعم المال ، والعلم ، والجاه ، وكل فضل من الله على العبد يمكنه أن ينفع به الناس ، يمكننا أن نجعلها من قبيل المثال ، ونقول : إن التحديد في بيان ما يجب بذله للناس من الجاه ، والعلم متعذر ، إذا فرضنا أن ما يجب بذله في المال متيسر ، وبهذا كانت الآية شاملة لما لا يتأتى تفصيله ، إلا بصحف كثيرة ، وكان الجواب أظهر ، والإيجاز أبلغ في الإعجاز وأكبر . البخل المذموم
أقول : ويؤيد العموم في قوله : بما آتاهم الله العموم في الجزاء على ذلك البخل في قوله : سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ولم يقل : سيطوقون زكاتهم ، أو المال الذي منعوه ، أما معنى التطويق فقد يكون من الطاقة ، فيكون بمعنى التكليف ; أي سيكلفون ذلك في الآخرة فلا يجدون إليه سبيلا كقوله : ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون [ 68 : 42 ] [ ص: 213 ] وقد يكون من الطوق ، أي يوبقون بما يلزمهم من الجزاء عليه فلا يجدون عنه مصرفا ، وسيأتي نحو ذلك في المأثور . وقال الأستاذ الإمام : إن الآية لم تبينه ولا أشارت إلى كيفيته ، فإن ورد في صحيح ما بينه اتبع الوارد بقدره لا يزاد ولا ينقص منه ، ووجب الإيمان به عند من صح عنده على أنه من خبر الغيب الذي أمرنا بالإيمان به لمحض الاتباع ، وذهب بعض المفسرين إلى أن معناه أنهم يحملون تبعة أموالهم ، يقال : طوقني الأمر أي ألزمني إياه ، فحاصل المعنى على هذا : أن العقاب على البخل لزام لا مرد له . سيجعل ما بخلوا به طوقا في أعناقهم
أقول : فسر بعضهم التطويق بحديث عند أبي هريرة ، البخاري : والنسائي وفي رواية من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاع ( ثعبان معروف ) أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه ( أي شدقيه ) يقول : أنا مالك ، أنا كنزك ، ثم تلا هذه الآية : للنسائي . هناك روايات عند إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يخيل إليه ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان فيلزمه ، أو يطوقه يقول : أنا كنزك ، أنا كنزك ، وغيره أن ذلك يكون طوقا من النار في عنق من يبخل ، والتمثيل ، والتخييل خلاف الحقيقة ، فهو نحو ما يرى في النوم ، ولكن هناك روايات عند ابن جرير وغيره ليس فيها لفظ التمثيل ، ولا التخييل ، وما ذكرناه أصح ، ابن جرير ( رضي الله عنه ) لا يقول بهذا التفسير ; لأن الآية عنده في البخل بالعلم ، لأنها نزلت في وابن عباس - صلى الله عليه وسلم - كما تقدم . روى بخل اليهود بإظهار صفات النبي من طريق ابن جرير محمد بن سعد ، عنه أنه قال : " قوله سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ألم تسمع أنه قال : يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ، يعني أهل الكتاب يكتمون ويأمرون الناس بالكتمان ، وروي عن مجاهد أنه قال في تفسيرها : " سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة " ، ولقول مجاهد وجه في اللغة أشد ظهورا على قول في الآية ; أي يكلفون بيان ما كتموا ، ففي لسان العرب : " وطوقتك الشيء كلفتكه ، وطوقني الله أداء حقك قواني ، " وذكر ذلك وجها في الآية ، وفي حديث بمعناها قبل هذه العبارة ، فقال بعد أن أورد قولهم : تطويقه الشيء بمعنى جعله طوقا له : " وقيل : هو أن يطوق حملها يوم القيامة ، فيكون من طوق التكليف لا من طوق التقليد " أقول : وأما تفسير طوقني الله أداء حقك بـ " قواني " ، فهو من طاقة الحبل ، وهي إحدى قواه لا من الطوق ، والمختار ما قلناه أولا . ابن عباس
ولله ميراث السماوات والأرض أي إن له وحده - سبحانه - جميع ما في السماوات والأرض مما يتوارثه الناس ، فينقل من واحد إلى آخر لا يستقر في يد ، ولا يسلم التصرف فيه لأحد إلى أن يفنى جميع الوارثين والمورثين ، ويبقى المالك الحقيقي وهو رب العالمين ، أو معناه أنه هو الذي ينقل كل ما يورث إلى من شاء من عباده ، فقد يدخر المرء مالا لولده [ ص: 214 ] فيجعله الله بسننه في نظام الاجتماع متاعا لغيرهم ، كأن يموتوا قبل والدهم أو يضيعوا ما جمعه لهم بالإسراف فيه ، ويبقون فقراء كأنه يقول : ما بال هؤلاء الباخلين بما أعطاهم الله من فضله وإحسانه لا يفيضون بشيء منه على عياله مغترين بتصرفهم الظاهر فيه ، وملكهم الانتفاع به ، ذاهلين عن مصدره الذي جاء منه ، وعن مرجعه الذي يعود إليه ، فإن لاح في خاطر أحد منهم أنه يموت ، ويفنى لم يخطر له إلا أن له وارثا يرث ما يتمتع هو به كأولاده وذي القربى ; فكأنه يبقى في يده ، فليعلم هؤلاء أن الوارث الذي ينتهي إليه التصرف فيما يتركه الهالكون ، هو المالك الحقيقي الذي أعطى أولئك الهالكين ما كانوا به يتمتعون ، وذلك يشمل المال وغيره .
الأستاذ الإمام : العبارة تبين أن كل ما يعطاه الإنسان من مال ، وجاه ، وقوة ، وعلم فإنه عرض زائل ، وصاحبه يفنى ويزول ، ولا معنى لاستبقاء الفاني ما هو فان مثله ، بل عليه أن يضع كل شيء في موضعه الذي يصلح له ، ويبذله في وجوهه اللائقة به ; أي فهو بذلك يكون خليفة لله في إتمام حكمته في أرضه ، ومحسنا للتصرف فيما استخلفه فيه .
والله بما تعملون خبير قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو : " يعلمون " بالمثناة التحتية ، والباقون بالمثناة الفوقية ; أي لا يخفى عليه شيء من دقائق عملكم ، ولا مما تنطوي عليه الصدور من الهوى فيه والنية في إتيانه ، فيجزى كل عامل بما عمل على حسب تأثير عمله في نفسه .