لتبلون في أموالكم وأنفسكم قال الرازي : اعلم أنه - تعالى - لما سلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله : كل نفس ذائقة الموت زاد في تسليته بهذه الآية ، فبين أن الكفار بعد أن آذوا الرسول ، والمسلمين يوم أحد فسيؤذونهم أيضا في المستقبل بكل طريق يمكنهم من الإيذاء بالنفس ، والإيذاء بالمال ، والغرض من هذا الإعلام أن يوطنوا أنفسهم على الصبر ، وترك الجزع ، وذلك لأن الإنسان إذا لم يعلم نزول عليه ، فإذا نزل البلاء شق ذلك عليه ، أما إذا كان عالما بأنه سينزل ، فإذا نزل لم يعظم وقعه عليه . البلاء
أقول : وعبارة الكشاف خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا أنفسهم على ما سيلقون من الأذى ، والشدائد والصبر عليها حتى إذا لقوها وهم مستعدون لا يرهقهم ما يرهق من تصيبه الشدة بغتة فينكرها وتشمئز منها نفسه .
الأستاذ الإمام : يصح اتصال هذه الآية بما قبلها من قوله - تعالى - : ولا يحسبن الذين يبخلون الآيات ، فإن فيها ذكر البخل بالمال ، وذكر حال اليهود ، وهذه تذكر البلاء بالمال ، وما سيلاقي المؤمنون من أولئك اليهود ، وغيرهم ، ويصح أن يكون على ما قاله بعضهم متصلا [ ص: 225 ] بما هو قبل ذلك من أول وقعة أحد إلى هنا ، كأنه يقول : إن ما وقع من الابتلاء في الأنفس ، والأموال ، والطعن في تلك الوقعة ليس آخر الابتلاء ، بل لا بد أن تبلوا بعد ذلك بكل هذه الضروب منه وتجري فيكم سنته - تعالى - في خلقه ، فلا تظنوا أنكم جلستم على عرش العزة واعتصمتم بالمنعة ، وأمنتم حوادث الكون ; فإنه لا بد أن يعاملكم الله - تعالى - كما يعامل الأمم معاملة المختبر المبتلي لا ليعلم ما لم يكن يعلم من أمركم فهو علام الغيوب ، بل ليميز الخبيث من الطيب من بعد ، كما ماز الكثيرين في وقعة أحد .
قال : يفسر بفرض الصدقات ، وبالبذل في سبيل الله - وهو كل ما يوصل إلى الخير - وبالجوائح والآفات وهذا الجمع أولى مما ذهب إليه بعضهم من تخصيصه بالأول ، وبعضهم من تخصيصه بالثاني . والابتلاء في الأموال يكون بتكليف بذلها في سبيل الله ، وبموت من يحب الإنسان من الأهل والأصدقاء ( أقول : وكذا والابتلاء في الأنفس كالأمراض والجروح ) ، الابتلاء بالمصائب البدنية هو أهم الابتلاءين ، وذلك أن الله - تعالى - لم يكفل للمسلمين الحفظ ، والنصر ، والسيادة لأنهم مسلمون ، وإنما يكلفهم الجري على سنته - تعالى - كغيرهم ، فلا بد لهم من الاستعداد للمدافعة دائما ، وذلك يقتضي بذل المال ، والنفس ، ومن هنا تعلم غلط الذين يفسرون الابتلاء بالمال ، والأمر ببذله ، والجهاد به كل ذلك بالزكاة ، وما الزكاة إلا نوع من أنواع الحقوق التي جعلها الله في المال وهي كثيرة تشمل كل ما به صلاح الأمة ، ورفع شأنها من الأعمال ، وكل ما يدفع عنها الأعداء ، ويرد عنها المكاره والأسواء ، ( يعني كالأعمال التي تعمل للوقاية من الأمراض والأوبئة ) ، ومن ذلك الابتلاء في المدافعة عن الحق سواء كان بالمال ، أو بالنفس ، فهو يوطن نفوسهم على الأخذ بالاحتياط في الأمور العامة ، والاستعانة عليها بالمال ، وتحمل المكاره ، ويحذرهم من الشره ، والطمع في المال حتى إذا طمعوا ، أو قصروا في الاحتياط - كما وقع لهم في أحد - علموا أنهم ما أصيبوا إلا بما كسبت أيديهم ، أو قصرت فيه هممهم فلا يتعللون ، ولا يقولون كيف أصبنا ونحن مسلمون ؟ وقدم ذكر المال لأنه هو الوسيلة التي يكون بها الاستعداد لبذل النفس ، والابتلاء بالتكليف ، أو لأن فبذل المال يحتاج إليه قبل بذل النفس ، فالذين قالوا إن المال شقيق الروح لاحظوا الغالب ، ومن غير الغالب أن يقدم الإنسان ماله على نفسه . علمنا أن الإنسان كثيرا ما يبذل نفسه دفاعا عن ماله ، وأما الإخبار به ففائدته التعريف بالسنن الإلهية ، وتهيئة المؤمن لها ، وحمله على الاستعداد لمقاومتها ، فإن من تحدث له النعمة فجأة على غير استعداد ولا سعي ترجى هي من ورائه تدهشه وتبطره ، وربما تهيج عصبه فيقع في داء أو يموت فجأة ، وكذلك من تقع به المصيبة فجأة على غير استعداد يعظم عليه الأمر ، ويحيط به الغم حتى يقتله في بعض الأحيان ، أما المستعد فإنه يكون ضليعا قويا . فائدة الابتلاء هي تمييز الخبيث من الطيب
[ ص: 226 ] أقول : يعني أنه يحمل البلاء بلا تبرم ، ولا سآمة ، فإن ظفر لا يفرح فرح البطر الفخور ، وإن خسر لا يشقى شقاء البئوس الكفور ، فهذا الإعلام تربية من الله لعباده المؤمنين فما بالهم في هذا العصر عن التذكرة معرضين أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين [ 23 : 68 ] ؟ هذا وإن قبل غزوة الزكاة فرضت في السنة الثانية من الهجرة بدر الأولى ، والظاهر أن هذه الآيات نزلت في السنة الرابعة بعد غزوة بدر الآخرة - كما يأتي - فالظاهر أن المراد بالابتلاء فيها بالمال هو الحاجة والقلة كما حصل في غزوة الأحزاب ، ثم في غزوة تبوك ، راجع تفسير ولنبلونكم بشيء من الخوف [ 2 : 155 ] ص27 ج 2 تفسير ط [ الهيئة المصرية العامة للكتاب ] ، وتقرأ بيانه لنا بعد خمسة أسطر .
وأما قوله : ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا فهو ابتلاء آخر ، وقد نزلت هذه الآية بعد أن كان المشركون وأهل الكتاب ملئوا الفضاء بكلامهم المؤذي للرسول ، والمؤمنين ، فلماذا صرح الكتاب بهذا ، وهو ما ألفه المسلمون واعتادوا ؟ بل قال الأستاذ الإمام : إن مثل هذا يدخل في الابتلاء في الأنفس ، وإنما خصه بالذكر لأنه من الأهمية بمكان .
أقول : نبه بهذه العبارة على عظم شأن هذا النبإ ، وليس عندي شيء عنه في سببه ، والمراد منه ، ولا أذكر أنني رأيت ذلك في شيء من الكتب التي اطلعت عليها ، فيجب الرجوع في ذلك إلى التاريخ ; أي سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا تذكرنا أن هذه الآية نزلت بعد غزوة بدر الآخرة التي سبق ما ورد فيها من الآيات بعد الكلام في غزوة أحد ، وغزوة حمراء الأسد - وتذكرنا أن ذلك كان في شعبان من سنة أربع ، وتذكرنا ما كان في سنة خمس من حديث الإفك ، وقذف عائشة الصديقة - برأها الله تعالى - ومن تألب اليهود ، ونقض عهودهم ، ومحاولتهم قتل النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أجلاهم ، وأمن شر مجاورتهم إياه بالمدينة ، ومن تألبهم مع المشركين ، وجمع الأحزاب من الفريقين ، وزحفهم على المدينة لأجل استئصال المسلمين ، وما كان في ذلك من البلاء الشديد ، والجوع الديقوع ، والحصار الضيق الذي قال الله فيه كله : إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا [ 33 : 10 ، 11 ] - إذا تذكرنا هذا كله علمنا أن الآية تمهيد له ، وإعداد للمسلمين لتلقيه لعل وقعه يخف عليهم ; ولذلك قال : وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور يعني إن تصبروا على البلاء الكبير الذي سيحل بكم في أموالكم وأنفسكم وعلى ما تسمعون من أهل الكتاب والمشركين من الأذى ، وتتقوا ما يجب اتقاؤه في الاستعداد لذلك قبل نزوله ، ومكافحته عند وقوعه ، فإن ذلك الصبر والتقوى من معزومات الأمور [ ص: 227 ] أي الأمور التي يجب العزم عليها ، أو مما عزم الله أن يكون ; أي من عزمات قضائه التي لا بد من وقوعها .
ومن تدبر هذا علم ضعف رواية ، ابن أبي حاتم وابن المنذر ، عن - رضي الله عنهما - أن الآية نزلت فيما كان بين ابن عباس أبي بكر ، وفنحاص ، وقد سردنا الرواية من عهد قريب ، فإن هذه الوصية المؤكدة للمؤمنين كافة ، وما سبقها من التمهيد أكبر من ذلك - وإن حسنها من رواها - ويرجح ما اخترناه في الآية السابقة من كونها في المؤمنين لا في الكافرين . وفي رواية عند عبد الرزاق ، عن عبد الرحمن بن كعب أن الآية نزلت في كعب بن الأشرف فيما كان يهجو به النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، وهذه أضعف من الأولى ، فإن كعب بن الأشرف قتل قبل غزوة أحد ، وكفى الله المسلمين كيده وقوله .
قال الأستاذ الإمام : هو تلقي المكروه بالاحتمال ، وكظم النفس عليه مع الروية في دفعه ، ومقاومة ما يحدثه من الجزع ، فهو مركب من أمرين : دفع الجزع ، ومحاولة طرده ، ثم مقاومة أثره حتى لا يغلب على النفس ، وإنما يكون ذلك مع الإحساس بألم المكروه ، فمن لا يحس به لا يسمى صابرا ، وإنما هو فاقد للإحساس يسمى بليدا ، وفرق بين الصبر والبلادة ، فالصبر وسط بين الجزع والبلادة ، وما أحسن قرن التقوى بالصبر في هذه الموعظة ، وهي أن يمتثل ما هدى الله إليه فعلا ، وتركا عن باعث القلب ، وذلك من عزم الأمور ; أي التي يجب أن تعقد عليها العزيمة ، وتصح فيها النية وجوبا محتما لا ضعف فيه . الصبر