ثم ختم - سبحانه - السورة بهذه الوصية للمؤمنين ; لأنها هي التي تتحقق بها استجابة ذلك الدعاء ، وإيفاء الوعد بالنصر في الدنيا ، وحسن الجزاء في الآخرة ، فقال : ياأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون قال الأستاذ الإمام : أي اصبروا [ ص: 261 ] على ما يلحقكم من الأذى ، وصابروا الأعداء الذين يقاومونكم ليغلبوكم على أمركم ، ويخذلون الحق الذي في أيديكم ، واربطوا الخيل كما يربطونها استعدادا للجهاد .
أقول : فالمصابرة ، والمرابطة ، وهي الرباط بمعنى مباراة الأعداء ، ومغالبتهم في الصبر ، وفي ربط الخيل كما قال : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل [ 8 : 60 ] على الأصل الذي قرره الإسلام من مقاتلتهم بمثل ما يقاتلوننا به ، فيدخل في ذلك مباراتهم في هذا العصر بعمل البنادق ، والمدافع ، والسفن البحرية والبرية والهوائية ، وغير ذلك من الفنون ، والعدد العسكرية ، ويتوقف ذلك كله على البراعة في العلوم الرياضية ، والطبيعية ، فهي واجبة على المسلمين في هذا العصر ; لأن الواجب من الاستعداد العسكري لا يتم إلا بها ، وقد أطلق لفظ المرابطة عند المسلمين على الإقامة في ثغور البلاد ، وهي مداخلها على حدود المحاربين لأجل الدفاع عنها إذا هاجمها الأعداء ، فإن هؤلاء يقيمون فيها ويقومون في أثناء ذلك بربط خيولهم ، وخدمتها ، وغير ذلك مما يحتاج إليه من الاستعداد .
وقال الأستاذ الإمام في الوصية بالتقوى : يكثر الله - تعالى - من هذه الوصية ، ومع ذلك نرى الناس قد انصرفوا عنها بتة ، صار التقي عند الناس هو الأهبل الذي لا يعقل مصلحته ، ولا مصلحة الناس . ولا شيء أشأم على التقوى من فهمها بهذا المعنى .
، أي من غضبه ، وسخطه ، وعقوبته ، ولا يمكن هذا إلا بعد معرفته ، ومعرفة ما يرضيه وما يسخطه ، ولا يعرف هذا إلا من فهم كتاب الله - تعالى - وعرف سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وسيرة سلف الأمة الصالح مطالبا نفسه بالاهتداء بذلك كله ، فمن صبر ، وصابر ، ورابط لأجل حماية الحق ، وأهله ، ونشر دعوته ، واتقى ربه في سائر شئونه فقد أعد نفسه بذلك للفلاح والفوز بالسعادة عند الله - تعالى - . التقوى : أن تقي نفسك من الله
وأقول : إن ، وقد يكون ذلك خاصا بالدنيا كما في قوله - تعالى - حكاية عن الفلاح هو الفوز ، والظفر بالبغية المقصودة من العمل فرعون : وقد أفلح اليوم من استعلى [ 20 : 64 ] وقد يكون خاصا بالآخرة كقوله حكاية عن أهل الكهف : ولن تفلحوا إذا أبدا [ 18 : 20 ] ويكون مشتركا بين الدارين ، وعندي أن أكثر وعد القرآن المؤمنين من هذا النوع .
وإرادة الفلاح الدنيوي من الآية التي نفسرها ظاهرة ; فإن الصبر ، ومصابرة الأعداء ، والمرابطة ، والتقوى كلها ، كما أنها مع حسن النية ، وقصد إقامة الحق والعدل - الذي هو شأن المؤمن - من أسباب سعادة الآخرة . وهذه الأعمال كلها اختيارية داخلة في مقدور الإنسان ، ولذلك أمر بها ، فعلمه إذا هو سبب فلاحه . من أسباب الفوز على الأعداء في الدنيا
فنسأل الله - تعالى - أن ينيلنا ما أرشدنا إليه ، وأقدرنا على أسبابه من سعادة الدارين .