[ ص: 264 ] بسم الله الرحمن الرحيم ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا
قال الأستاذ الإمام : افتتح - سبحانه - السورة بتذكير الناس المخاطبين بأنهم من نفس واحدة ، فكان هذا تمهيدا وبراعة مطلع لما في السورة من أحكام القرابة بالنسب ، والمصاهرة ، وما يتعلق بذلك من أحكام الأنكحة ، والمواريث ، فبين القرابة العامة بالإجمال ، ثم ذكر الأرحام ، وشرع بعد ذلك في تفصيل الأحكام المتعلقة بها .
; لأنها افتتحت بذكر النساء ، وبعض الأحكام المتعلقة بهن ، وقوله - تعالى - : وسميت سورة النساء يا أيها الناس خطاب عام ليس خاصا بقوم دون قوم ، فلا وجه لتخصيصها بأهل مكة كما فعل المفسر ( الجلال ) لاسيما مع العلم بأن السورة مدنية إلا آية واحدة فيها شك ، هل هي مدنية أم مكية . ولفظ الناس اسم لجنس البشر ، قيل : أصله " أناس " فحذفت الهمزة عند إدخال الألف واللام عليه .
أقول : وقد عزا الرازي القول بأن الخطاب لأهل مكة إلى - رضي الله عنه - ، وقال : وأما الأصوليون من المفسرين فقد اتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلفين ، وهذا هو الأصح ، وأيده بثلاثة وجوه : كون اللام في الناس للاستغراق ، وكون جميعهم مخلوقين ، ومأمورين بالتقوى . وأذكر أن أقدم عبارة سمعتها في التفسير فوعيتها وأنا صغير عن والدي - رحمه الله - هي قوله : إن الله - تعالى - كان ينادي ابن عباس أهل مكة بقوله : يا أيها الناس وأهل المدينة بقوله : يا أيها الذين آمنوا ولم يناد الكفار بوصف الكفر إلا مرة واحدة في سورة التحريم يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم [ 66 : 7 ] وهذا إخبار عما ينادون به في الآخرة .
وأقول : إن كلمة يا أيها الناس كثيرة في السور المكية كالأعراف ، ويونس ، والحج ، والنمل ، والملائكة ، ووردت أيضا في البقرة ، والنساء ، والحجرات من السور المدنية ، فخطاب أهل مكة فيها هو الغالب ، وهو مع ذلك يعم غيرهم ، وورودها في السور المدنية [ ص: 265 ] يراد به خطاب جميع المكلفين ابتداء ، وما أظن أن قال في فاتحة النساء : إنها خطاب ابن عباس لأهل مكة ، بل يوشك أن يكون قد قال نحوا مما رويناه آنفا عن الوالد فتصرف فيه الناقلون ، وحملوه على كل فرد من أفراد هذا الخطاب حتى غلط فيه الجلال السيوطي في التفسير ، وإن حقق في الإتقان أن السورة مدنية . وقوله : اتقوا ربكم قد تقدم مثله كثيرا ، وآخره في آخر السورة السابقة ، والمناسبة بين الأمر بتقوى رب الناس ومغذيهم بنعمه ، وبين وصفه بقوله : الذي خلقكم من نفس واحدة ظاهرة ; فإن الخلق أثر القدرة ، ومن كان متصفا بهذه القدرة العظيمة جدير بأن يتقى ويحذر عصيانه ، كذا قال بعضهم .
قال الأستاذ الإمام : وأحسن من هذا أن يقال : إن هذا تمهيد لما يأتي من أحكام اليتامى ، ونحوها كأنه يقول : يا أيها الناس خافوا الله ، واتقوا اعتداء ما وضعه لكم من حدود الأعمال ، واعلموا أنكم أقرباء يجمعكم نسب واحد ، وترجعون إلى أصل واحد ، فعليكم أن تعطفوا على الضعيف كاليتيم الذي فقد والده ، وتحافظوا على حقوقه .
أقول : وفي ذكر لفظ الرب هنا ما هو داعية لهذا الاستعطاف ، أي ربوا اليتيم وصلوا الرحم كما رباكم خالقكم بنعمه وحباكم بجوده وكرمه .
الأستاذ الإمام : ليس المراد بالنفس الواحدة آدم بالنص ، ولا بالظاهر ، فمن المفسرين من يقول : إن كل نداء مثل هذا يراد به أهل مكة ، أو قريش ، فإذا صح هذا جاز أن يفهم منه بنو قريش أن النفس الواحدة هي قريش أو عدنان ، وإذا كان الخطاب للعرب عامة جاز أن يفهموا منه أن المراد بالنفس الواحدة يعرب أو قحطان . وإذا قلنا : إن الخطاب لجميع أهل الدعوة إلى الإسلام ، أي لجميع الأمم ، فلا شك أن كل أمة تفهم منه ما تعتقده ، فالذين يعتقدون أن جميع البشر من سلالة آدم يفهمون أن المراد بالنفس الواحدة آدم ، والذين يعتقدون أن لكل صنف من البشر أبا يحملون النفس على ما يعتقدون ( والأصناف الكبرى هي الأبيض القوقاسي ، والأصفر المغولي ، والأسود الزنجي وغيره ، وبعض فروع هذا تكاد تكون أصولا كالأحمر الحبشي ، والهندي الأمريكي ، والملقي ) .
قال : والقرينة على أنه ليس المراد هنا بالنفس الواحدة آدم قوله : وبث منهما رجالا كثيرا ونساء بالتنكير : وكان المناسب على هذا الوجه أن يقول : وبث منهما جميع الرجال والنساء . وكيف ينص على نفس معهودة والخطاب عام لجميع الشعوب .
وهذا العهد ليس معروفا عند جميعهم ، فمن الناس من لا يعرفون آدم ولا حواء ولم يسمعوا بهما . وهذا النسب المشهور عند ذرية نوح مثلا هو مأخوذ عن العبرانيين ، فإنهم هم الذين جعلوا للبشر تاريخا متصلا بآدم ، وحددوا له زمنا قريبا . وأهل الصين ينسبون البشر إلى أب آخر ، ويذهبون بتاريخه إلى زمن أبعد من الزمن الذي ذهب إليه العبرانيون . والعلم والبحث [ ص: 266 ] في آثار البشر مما يطعن في تاريخ العبرانيين ، ونحن المسلمين لا نكلف تصديق تاريخ اليهود ، وإن عزوه إلى موسى - عليه السلام - ، فإنه لا ثقة عندنا بأنه من التوراة ، وأنه بقي كما جاء به موسى .
قال : نحن لا نحتج على ما وراء مدركات الحس ، والعقل إلا بالوحي الذي جاء به نبينا - عليه السلام - ، وإننا نقف عند هذا الوحي لا نزيد ، ولا ننقص كما قلنا مرات كثيرة ، وقد أبهم الله - تعالى - ههنا أمر النفس التي خلق الناس منها ، وجاء بها نكرة فندعها على إبهامها . فإذا ثبت ما يقوله الباحثون من الإفرنج من أن لكل صنف من أصناف البشر أبا كان ذلك غير وارد على كتابنا كما يرد على كتابهم التوراة لما فيها من النص الصريح في ذلك ، وهو مما حمل باحثيهم على الطعن في كونها من عند الله - تعالى - ووحيه .
وما ورد في آيات أخرى من مخاطبة الناس بقوله : يا بني آدم [ 7 : 26 ] لا ينافي هذا ، ولا يعد نصا قاطعا في كون جميع البشر من أبنائه ، إذ يكفي في صحة الخطاب أن يكون من وجه إليهم في زمن التنزيل من أولاد آدم ، وقد تقدم في تفسير قصة آدم في أوائل سورة البقرة أنه كان في الأرض قبله نوع من هذا الجنس أفسدوا فيها ، وسفكوا الدماء .
وأقول زيادة في الإيضاح : إذا كان جماهير المفسرين فسروا النفس الواحدة هنا بآدم فهم لم يأخذوا ذلك من نص الآية ولا من ظاهرها بل من المسألة المسلمة عندهم ، وهي آدم أبو البشر . وقد اختلفوا في مثل هذا التعبير من قوله - تعالى - : أن هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها [ 7 : 189 ] الآية . فقد ذكر الرازي في تفسيرها ثلاثة تأويلات : التأويل الأول ما ذكره عن القفال ، وهو أنه - تعالى - ذكر هذه القصة على سبيل ضرب المثل . والمراد : خلق كل واحد منكم من نفس واحدة ، وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية إلخ . والتأويل الثاني : أن الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم آل قصي ، وأن المراد بالنفس الواحدة قصي . والتأويل الثالث : أن النفس الواحدة آدم . وأجاب عما يرد عليه من وصفه هو وزوجه بالشرك . وقد تقدم في تفسير سورة البقرة توجيه كون قصة آدم نفسها من قبيل التمثيل الذي حمل القفال عليه آية سورة الأعراف .
وقد نقل عن الإمامية ، والصوفية أنه كان قبل آدم المشهور عند أهل الكتاب ، وعندنا آدمون كثيرون ، قال في روح المعاني : وذكر صاحب جامع الأخبار من الإمامية في الفصل الخامس عشر خبرا طويلا نقل فيه أن الله - تعالى - خلق قبل أبينا آدم ثلاثين آدم بين كل آدم ، وآدم ألف سنة ، وأن الدنيا بقيت خرابا بعدهم خمسين ألف سنة ، ثم عمرت خمسين ألف سنة ، ثم خلق أبونا آدم - عليه السلام - . وروى ابن بابويه في كتاب التوحيد عن الصادق في حديث طويل أيضا أنه قال : لعلك ترى أن الله لم يخلق بشرا غيركم ، بلى ، والله لقد خلق ألف ألف [ ص: 267 ] آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين ، وقال الميثم في شرحه الكبير للنهج : ونقل عن أنه قال : قد انقضى قبل محمد بن علي الباقر آدم الذي هو أبونا ألف ألف آدم ، أو أكثر . وذكر الشيخ الأكبر - قدس سره - في فتوحاته ما يقتضي بظاهره أن قبل آدم بأربعين ألف سنة آدم غيره . وفي كتاب الخصائص ( لابن بابويه كما في الهامش ) ما يكاد يفهم منه التعدد أيضا الآن ، حيث روى فيه عن الصادق أنه قال : " إن لله - تعالى - اثني عشر ألف عالم ، كل عالم منهم أكبر من سبع سماوات وسبع أرضين ، ما يرى عالم منهم أن لله - عز وجل - عالما غيرهم " انتهى المراد منه . وفي المسألة نقول أخرى في الفتوحات وغيرها ، ثم نقل عن زين العرب القول بكفر من يقول بتعدد آدم . وهذا من جرأته ، وجرأة أمثاله الذين يتهجمون على تكفير المسلمين لأوهى الشبهات .
للأستاذ الإمام في هذا المقام رأيان :
أحدهما : أن ظاهر هذه الآية يأبى أن يكون المراد بالنفس آدم ، أي سواء كان هو الأب لجميع البشر أم لا ، لما ذكره من معارضة المباحث العلمية ، والتاريخية له ومن تنكير ما بثه منها ، ومن زوجها ، على أنه يمكن الجواب على هذا الأخير بأن التنكير لمن ولد منهما مباشرة كأنه يقول : بث منهما كثيرا من الرجال والنساء ، وبث من هؤلاء سائر الناس ، وعن الأول بأنه لا يزال غير قطعي .
وثانيهما : أنه ليس في القرآن نص أصولي قاطع على أن ، والمراد بالبشر هنا هذا الحيوان الناطق ، البادي البشرة ، المنتصب القامة ، الذي يطلق عليه لفظ الإنسان ، وعلى هذا الرأي لا يرد على القرآن ما يقوله بعض الباحثين ، ومن اقتنع بقولهم من أن للبشر عدة آباء ترجع إليهم سلائل كل صنف منهم . جميع البشر من ذرية آدم
ثم إن ما ذهب إليه الأستاذ الإمام يرد الشبهات التي ترد في هذا المقام ، ولكنه لا يمنع المعتقدين أن آدم هو أبو البشر كلهم من اعتقادهم هذا ; لأنه لا يقول : إن القرآن ينفي هذا الاعتقاد ، وإنما يقول : إنه لا يثبته إثباتا قطعيا لا يحتمل التأويل ، وقد صرحنا بهذا ؛ لأن بعض الناس كان فهم من درسه أنه يقول : إن القرآن ينافي هذا الاعتقاد ، أي اعتقاد أن آدم أبو البشر كلهم ، وهو لم يقل هذا تصريحا ، ولا تلويحا ، وإنما بين أن ثبوت ما يقوله الباحثون في العلوم ، وآثار البشر ، وعادياتهم والحيوانات من أن للبشر عدة أصول ، ومن كون آدم ليس أبا لهم كلهم في جميع الأرض قديما وحديثا ، كل هذا لا ينافي القرآن ، ولا يناقضه ، ويمكن لمن ثبت عنده أن يكون مسلما مؤمنا بالقرآن بل له حينئذ أن يقول : لو كان القرآن من عند محمد - صلى الله عليه وسلم - لما خلا من نص قاطع يؤيد هذا الاعتقاد الشائع عن أهل الكتاب في ذلك ، ولكنه - وهو من عند الله - جاء في ذلك بما لم تستطع اليهود أن تعارضه من قبل بدعوى مخالفته [ ص: 268 ] لكتبهم ، ولم يستطع الباحثون أن يعارضوه من بعد لمخالفته ما ثبت عندهم . وليت شعري ماذا يقول الذين يذهبون إلى أن المسألة قطعية بنص القرآن فيمن يوقن بدلائل قامت عنده بأن البشر من عدة أصول ؟ هل يقولون إذا أراد أن يكون مسلما ، وتعذر عليه ترك يقينه في المسألة : إنه لا يصح إيمانه ، ولا يقبل إسلامه ، وإن أيقن بأن القرآن كلام الله ، وأنه لا نص فيه يعارض يقينه ! ؟
هذا وإن المتبادر من لفظ النفس - بصرف النظر عن الروايات ، والتقاليد المسلمات - أنها هي الماهية ، أو الحقيقة التي كان بها الإنسان هو هذا الكائن الممتاز على غيره من الكائنات ، أي خلقكم من جنس واحد ، وحقيقة واحدة ، ولا فرق في هذا بين أن تكون هذه الحقيقة بدئت بآدم - كما عليه أهل الكتاب وجمهور المسلمين - أو بدئت بغيره وانقرضوا كما قاله بعض الشيعة والصوفية ، أو بدئت بعدة أصول انبث منها عدة أصناف كما عليه بعض الباحثين ، ولا بين أن تكون هذه الأصول أو الأصل مما ارتقى عن بعض الحيوانات ، أو خلق مستقلا على ما عليه الخلاف بين الناس في هذا العصر ، والله - تعالى - يقول في سورة المؤمنين : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين [ 23 : 12 ] الآيات ، وسنبين في تفسيرها ، أو تفسير سورة الحجر ما يفيده مجموع الآيات المنزلة في خلق الإنسان من كيفية تكوينه .
على كل حال ، وكل قول يصح أن جميع الناس هم من نفس واحدة هي الإنسانية التي كانوا بها ناسا ، وهي التي يتفق الذين يدعون إلى خير الناس ، وبرهم ودفع الأذى عنهم على كونها هي الحقيقة الجامعة لهم ، فتراهم على اختلافهم في أصل الإنسان يقولون عن جميع الأجناس والأصناف : إنهم إخوتنا في الإنسانية ، فيعدون الإنسانية مناط الوحدة ، وداعية الألفة والتعاطف بين البشر ، سواء اعتقدوا أن أباهم آدم - عليه السلام - أو القرد ، أو غير ذلك .
وهذا المعنى هو المراد من تذكير الناس بأنهم من نفس واحدة ; لأنه مقدمة للكلام في حقوق الأيتام ، والأرحام ; وليس كلاما مستقلا لبيان مسائل الخلق والتكوين بالتفصيل ; لأن هذا ليس من مقاصد الدين . وبهذا التفسير ينحل ما سيأتي من الإشكال اللفظي بأوضح مما حلوه به .
أما التي يحيا بها الإنسان وتتحقق وحدة جنسه على كثرة أصنافه فقد اختلف فيها المسلمون كما اختلف فيها من قبلهم ، ومن بعدهم ، فقال بعضهم : هي عرض من أعراض البدن لا استقلال لها بنفسها ، بل هي الحياة . وقال الجمهور : بل هي جوهر ، قال بعضهم : مادي ، وبعضهم إنه مجرد عن المادة . وقيل : هي جزء من البدن ، وقيل : [ ص: 269 ] جسم مودع فيه ، واختلف في حقيقة النفس فقيل : هي النفس ، وقيل غيرها ، وقال بعضهم بالوقف ، وعدم جواز الكلام في حقيقة الروح ، كل هذه الأقوال نقلت عن علماء المسلمين من أهل الكلام ، والفلسفة ، والتصوف ، ولم يكفر أحد منهم أحدا بمذهبه فيها ، ومن الغرائب أن القول بأن الروح عرض من أعراض الجسم هو الحياة منقول عن القاضي الروح وأتباعه من متكلمي أبي بكر الباقلاني ، الأشاعرة ، وهو مع ذلك يعد من أئمة أهل السنة الأشاعرة ، وروي عن الإمام مالك أن الروح صورة كالجسد .
وقال أبو عبد الله ابن القيم في تعريف الروح ، وشرح حقيقته على مذهب أهل السنة : إنه جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس ، وهو جسم نوراني علوي خفيف حي متحرك ، ينفذ في جوهر الأعضاء ، ويسري فيها سريان الماء في الورد ، وسريان الدهن في الزيتون ، والنار في الفحم ، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف مشابكا لهذه الأعضاء أفادها هذه الآثار الفائضة عليها من الحس ، والحركة الإرادية ، وإذا فسدت هذه الأعضاء بسبب استيلاء الأجزاء الغليظة عليها ، وخرجت عن قبول تلك الآثار فارق الروح البدن ، وانفصل إلى عالم الأرواح . اهـ .
وأقول : إن أقوى النظريات الفلسفية في إثبات الروح ، أو النفس - وهما يطلقان على معنى واحد - هي أن العقل ، والحفظ ، والذكر ( بالضم ) أي الذاكرة ، ليست من صفات هذا الجسد ، أو أجزاء ماهيته ، وهي أمور ثابتة قطعا ، فلا بد لها من منشأ وجودي غير هذا الجسد الكثيف ، حتى إن الدماغ الذي هو مظهرها تنحل دقائقه حتى يندثر ، ويزول ، ثم يتجدد المرة بعد المرة ، وتبقى المدركات محفوظة في النفس تفيضها على الدماغ الجديد بعد زوال ما قبله فيتذكرها الإنسان عند الحاجة إليها ، وقد عبر الأقدمون عن منشئها الوجودي الذي لا بد أن يكون لطيفا خفيا للطافته بالنفس ( بسكون الفاء ) ، وبالروح ( بضم الراء ) وهما قريبا المعنى يدلان على ألطف الموجودات المعروفة عند كل الناس ، فالروح ( بالضم ) ، والروح ( بالفتح ) الذي هو التنفس واحد في الأصل ، وكلاهما من مادة الريح ، فإن ياء الريح واو قلبت ياء لانكسار ما قبلها ، فقد أطلقوا على هذا المعنى اللطيف الذي هو منشأ الإدراك والحياة اسمين من أسماء ألطف الموجودات المدركة لهم ، ولو كان الواضعون لهذين الاسمين يعرفون ما يعرفه أهل هذا الزمان من الموجودات التي هي ألطف من الريح ، والنفس كالأيدروجين والكهرباء لأطلقوا لفظهما أو لفظا مشتقا منهما على منشأ الحياة والإدراك ، وسببهما . ألا ترى أن سائقي المركبات الكهربائية ( الترام ) ، وغيرهم يعبرون عن التيار الكهربائي الذي تسير به هذه المركبات بالنفس ( بفتح الفاء ) فالتسمية لا تعين حقيقة المسمى ، وإنما تدل على أن الواضعين تخيلوا منشأ الحياة شيئا في منتهى اللطافة ، والخفاء مع قوة تأثيره [ ص: 270 ] وعظم آثاره ، وإنما كان الفلاسفة هم الذين بحثوا كعادتهم عن حقيقة هذا الأمر ، ولا يزالون يبحثون . وقد قال - تعالى - : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا [ 17 : 85 ] أي إن قلة ما عندكم من العلم لا يمكنكم من معرفة حقيقة الروح . قال كثير من العلماء : إن الآية تدل على أنه لا مطمع في معرفة حقيقة الروح ، وأقول : إنها لا تدل على ذلك ، بل تدل على أنه إذا أوتي الناس من العلم أكثر مما أوتي أولئك السائلون جاز أن يعرفوها ، لم أر موضحا ، أو مقربا لمعنى الروح والنفس في الإنسان كالتمثيل بالكهربائية ، فالمادي الذي يقول : إنه لا روح إلا هذا العرض الذي يسمى الحياة ، يشبه الجسد بالبطارية الكهربائية ، ويقول : إنها بوضعها الخاص وبما يودع فيها من المواد تتولد فيها الكهربائية ، فإذا زال شيء من ذلك فقدت ، وكذلك تتولد الحياة في البدن بتركيب مزاجه بكيفية خاصة وبزوالها تزول . ويقول المعتقد استقلال الأرواح : إن الجسد يشبه المركبة الكهربائية ، وشبهها من الآلات التي تدار بالكهرباء ، توجه إليها من المعمل المولد لها ، فإذا كانت الآلة على وضع خاص في أجزائها ، وأدواتها كانت مستعدة لقبول الكهربائية التي توجه إليها ، وأداء وظيفتها فيها ، وإن فقد منها بعض الأدوات الرئيسية ، أو اختل وضعها الخاص ، فارقتها الكهربائية ، ولم تعد تعمل بها .
على أنهم كانوا يظنون أن الكهرباء قوة تعرض للمادة لا وجود لها في ذاتها ، فصاروا من عهد قريب يرجحون أنها هي أصل الموجودات كلها أي إنها موجودة بذاتها ، وكل المواد الأخرى موجودة بها ، ويقرب من هذا قول الروحيين : إن الروح هي حقيقة الإنسان الثابتة ، وإن قوام الجسد بها ، فهي الحافظة لوجوده والمنظمة لشئونه الحيوية ، فإذا فارقته انحل وعاد إلى بسائطه ، وإنما يقال هذا باعتبار الأسباب ، والظواهر ، وإلى الله ترجع الأمور . وهذا المذهب الجديد في الكهربائية قريب من أهل وحدة الوجود من الصوفية ، وربما كان سلما موصلا إليه ، وسنعود إلى هذا المبحث فنبسط القول فيه على مذاهب أهل الفلسفة ، والعلوم الطبيعية لهذا العهد في موضع أليق به من هذا الموضع إن شاء الله - تعالى - .