أما وخلق منها زوجها فمعناه على الوجه الذي قررناه يظهر بطريق الاستخدام بحمل النفس على الجنس ، وإعادة الضمير عليه بمعنى أحد الزوجين ، أو بجعل العطف على محذوف يناسب ذلك كما قال الجمهور ، أي وحد تلك الحقيقة أولا ، ثم خلق لها زوجها من جنسها . ومعناه المراد عند الجمهور أن الله - تعالى - خلق لتلك النفس التي هي قوله - تعالى - : آدم زوجا منها وهي حواء ، قالوا : إنه خلقها من ضلعه الأيسر ، وهو نائم ، وذلك ما صرح به في الفصل الثاني من سفر التكوين ، وورد في بعض الأحاديث ، ولولا ذلك لم يخطر على بال قارئ القرآن ، وهناك قول آخر اختاره أبو مسلم كما قال الرازي وهو : أن معنى " خلق منها [ ص: 271 ] زوجها " خلقه من جنسها ، فكان مثلها ، فهو كقوله - تعالى - : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة [ 30 : 21 ] وقوله : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة [ 16 : 72 ] وقوله : فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ 42 : 11 ] ومن هذا القبيل قوله - عز وجل - : لقد جاءكم رسول من أنفسكم [ 9 : 128 ] وقوله : لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم [ 3 : 164 ] ومثلهما في سورة البقرة ، وسورة الجمعة . فلا فرق بين عبارة الآية التي نفسرها ، وعبارة هذه الآيات ، فالمعنى في الجميع واحد ، ومن ثبت عنده أن حواء خلقت من ضلع آدم فهو غير ملجأ إلى إلصاق ذلك بالآية ، وجعله تفسيرا لها ، وإخراجها عن أسلوب أمثالها من الآيات .
هذا وإن في النفس الواحدة وجها آخر وهو أنها الأنثى ; ولذلك أنثها حيث وردت ، وذكر زوجها الذي خلق منها في آية الأعراف ، فقال : ليسكن إليها [ 7 : 189 ] وعليه يظهر افتتاح السورة بها ، ووجه تسميتها بالنساء أكثر ، وأصحاب هذا الرأي يقولون : إنه من قبيل ما هو ثابت إلى اليوم عند العلماء من التوالد البكري ، وهو أن من الذكور ، ولكن لا بد أن يكون قد سبق تلقيح لبعض أصولها ، وخلق زوجها منها على هذا الوجه يحتمل أن يكون منها ذاتها وأن يكون من جنسها . وثم وجه آخر قريب من هذا ، وهو أن النفس الواحدة كانت جامعة لأعضاء الذكورة ، والأنوثة كالدودة الوحيدة ، ثم ارتقت ، فصار أفرادها زوجين ، قال بهذا ، وذاك بعض الباحثين العصريين ، ومحل تحقيقه تفسير آية أخرى . إناث بعض الحيوانات الدنيا تلد عدة بطون بدون تلقيح
وذكر وجهين في عطف الزمخشري وخلق منها زوجها على ما قبله ، أحدهما : أنه معطوف على محذوف كأنه قيل : من نفس واحدة أنشأها ، وابتدأها وخلق منها زوجها ، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه ، والمعنى شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها إلخ . وثانيهما : أنه معطوف على خلقكم قال : والمعنى : خلقكم من نفس آدم لأنها من جملة الجنس المفرع منه ، وخلق منها أمكم حواء وبث منهما رجالا كثيرا ونساء غيركم من الأمم الفائتة للحصر . أقول : وفيه اكتفاء ، أي ونساء كثيرا .
وقال الأستاذ الإمام : نكر " رجالا " ، " ونساء " ، وأكد هذا بقوله : كثيرا إشارة إلى كثرة الأنواع ، وإلى أنه ليس المراد بالتثنية في قوله : منهما آدم وحواء بل كل زوجين ، وهو ينطبق على ما قلناه في تفسير الجملة السابقة ، ثم إن ذكر خلق الزوج بعد ذكر خلق الناس لا يقتضي تأخره عنه في الزمن ; فإن العطف بالواو لا يفيد الترتيب ، ولا ينافي كون [ ص: 272 ] الكلام مرتبا متناسقا كما تطلب البلاغة ، فإنه جاء على أسلوب التفصيل بعد الإجمال . يقول : إنه خلقكم من نفس واحدة ، فهذا إجمال فصله ببيان كونه خلق من جنس تلك النفس زوجا لها ، وجعل النسل من الزوجين كليهما ، فجميع سلائل البشر متولدة من زوجين ذكر ، وأنثى اهـ . ويرد على قوله : إن الواو لا تفيد الترتيب آية الزمر خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها [ 39 : 6 ] وقد أجابوا عنه بما يذكر في محله .
ويرد على رأي أبي مسلم ، ورأي الجمهور أن بث الرجال والنساء من الزوجين معا ينافي كونهم مخلوقين من نفس واحدة ، ويناقضه ، ولا يرد على جعل النفس الواحدة عبارة عن الجنس ، والحقيقة الجامعة ، فكونهم من جنس واحد لا ينافي كون هذا الجنس خلق زوجين ذكرا ، وأنثى ، وكونه بث منهما رجالا كثيرا ونساء ، بل ولا جميع الرجال والنساء كما هو ظاهر . ونقل الرازي ، عن القاضي أن هذا الاعتراض وارد على القول الذي اختاره أبو مسلم ، وهو كون الزوج خلق من جنس تلك النفس خلقا مستقلا دون قول الجمهور الذين يقولون : إن الزوج خلق من النفس ذاتها بخلق حواء من ضلع آدم .
والظاهر أنه وارد على القولين ; لأن الواقع ، ونفس الأمر أن الناس مخلوقون من الزوجين الذكر والأنثى ، وهما نفسان ثنتان سواء خلقتا مستقلتين ، أو خلقت إحداهما من الأخرى كما قال - تعالى - : يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا [ 49 : 13 ] الآية ، ولكن التأويل على قول الجمهور أسهل ، إذ يقولون : إنهم لما كانوا من نفسين : إحداهما مخلوقة من الأخرى صاروا بهذا الاعتبار من نفس واحدة ، وليس تأويل القول الآخر بالعسير ، فقد قال الرازي فيه : ويمكن أن يجاب بأن كلمة ( من ) لابتداء الغاية ، فلما كان ابتداء التخليق والإيجاد وقع بآدم - عليه السلام - صح أن يقال : خلقكم من نفس واحدة وأيضا فلما ثبت أنه - تعالى - قادر على خلق آدم من التراب كان قادرا أيضا على خلق حواء من التراب ، وإذا كان الأمر كذلك فأي فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم . انتهى كلامه ، وهو يدل على اختياره ما اختاره أبو مسلم ، ومثله الأستاذ الإمام .