ثم وآتوا النساء صدقاتهن نحلة هذا حكم آخر من أحكام النساء يرجح كون هذه الآية نزلت فيهن لا أن حكم تعددهن في الزوجية جاء عرضا وتبعا لأحكام اليتامى منهن ، أي وأعطوا النساء اللواتي تعقدون عليهن مهورهن نحلة ، أي عطاء نحلة ، أي فريضة لازمة عليكم ، وهو المروي عن قال - تعالى - : قتادة ، وقال : فريضة مسماة ، وقيل : ديانة من النحلة بمعنى الملة ، وروى ابن جريح عن ابن جرير أن النحلة : المهر . وتقدم في تفسير المفردات أن النحلة تطلق على ما ينحله الإنسان ويعطيه هبة عن طيب نفس بدون مقابلة عوض ، وهو الذي اختاره الأستاذ الإمام هنا . قال : ابن عباس
الصدقات : جمع صدقة بضم الدال ، وفيه لغات ، منها الصداق : وهو ما يعطى للمرأة قبل الدخول عن طيب نفس ، وينبغي أن يلاحظ في هذا العطاء معنى أعلى من المعنى الذي لاحظه الذين يسمون أنفسهم الفقهاء من أن الصداق والمهر بمعنى العوض عن البضع ، والثمن له ، كلا إن الصلة بين الزوجين أعلى ، وأشرف من الصلة بين الرجل وفرسه ، أو جاريته ، [ ص: 308 ] ولذلك قال : نحلة فالذي ينبغي أن يلاحظ هو أن هذا العطاء آية من آيات المحبة ، وصلة القربى ، وتوثيق عرى المودة ، والرحمة ، وأنه واجب حتم لا تخيير فيه كما يتخير المشتري ، والمستأجر ، وترى عرف الناس جاريا على عدم الاكتفاء بهذا العطاء بل يشفعه الزوج بالهدايا والتحف .
أقول : الخطاب على هذا الوجه من معنى الجملة للأزواج ، وفيها وجه آخر ، وهو أن الخطاب للأولياء الذين يزوجون النساء اليتامى ، وغير اليتامى ، ويأمرهم الله - تعالى - أن يعطوهن ما يأخذونه من مهورهن من أزواجهن بالنيابة عنهن ، وكان ولي المرأة في الجاهلية يزوجها ويأخذ صداقها لنفسه دونها ، ومنهم من كان يعطي الرجل أخته على أن يعطيه أخته فلا يصيب الأختين شيء من المهر ، ولا مانع من جعل الخطاب للمسلمين جملة ، فالزوج يأخذ منه أنه مأمور بأداء المهر وأنه لا هوادة فيه ، والولي يأخذ منه أنه ليس له أن يزوج موليته بغير مهر لمنفعة له ، ولا أن يأكل من المهر شيئا إذا هو قبضه من الزوج باسمها إلا أن تسمح هي لأحد بشيء برضاها ، واختيارها ، قال - عز وجل - :
فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا أي إن طابت نفوسهن بإعطائكم شيئا من الصداق ولو كله بناء على أن " من " في قوله : ( منه ) للبيان ، وقيل : هي للتبعيض ، ولا يجوز هبته كله ، ولا أخذه إن هي وهبته ، وإليه ذهب الإمام الليث . فأعطينه من غير إكراه ، ولا إلجاء بسوء العشرة ، ولا إخجال بالخلابة والخدعة . وقال ابن عباس : من غير ضرار ولا خديعة - فكلوه أكلا هنيئا مريئا ، أو حال كونه هنيئا مريئا ، من هنوء الطعام ومروئه إذا كان سائغا لا غصص فيه ، ولا تنغيص . وقال بعضهم : الهنيء ما يستلذه الآكل ، والمريء ما تجمل عاقبته كأن يسهل هضمه ، وتحسن تغذيته ، والمراد بالأكل مطلق التصرف - راجع ص160 ج2 [ ط الهيئة المصرية العامة للكتاب ] - وبكونه هنيئا مريئا لا تبعة فيه ، ولا عقاب عليه .
الأستاذ الإمام : ، فإذا طلب منها شيئا فحملها الخجل أو الخوف على إعطائه ما طلب فلا يحل له . وعلامات الرضا ، وطيب النفس لا تخفى على أحد ، وإن كان اللابسون لباس الصالحين المتحلون بعقود السبح الذين يحركون شفاههم ويلوكون ألسنتهم بما يسمونه ذكرا يستحلون أكل أموال نسائهم إذا أعطينها ، أو أجزن أخذها بالترهيب ، أو الخداع ، أو الخجل ، ويقولون : إنهن أعطيننا ، ولنا الظاهر والله يتولى السرائر . وقد قال - تعالى - في الآية الآتية : لا يجوز للرجل أن يأكل شيئا من مال امرأته إلا إذا علم أن نفسها طيبة به وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا [ 4 : 20 ] فإذا شدد هذا التشديد في طور المفارقة فكيف يكون الحكم في طور الاجتماع والمعاشرة ؟ .
[ ص: 309 ] أقول : يعني أن طور المفارقة هو طور مغاضبة ، ففي الطبع داعية للمشاحة فيه ، وأما طور عقد المصاهرة فهو طور الرغبة ، والتحبب ، وإظهار الزوج أهليته لما يجب عليه من كفالة المرأة ، والنفقة عليها ، ولكن غلب حب الدرهم ، والدينار في هذا الزمان على كل شيء حتى على العواطف الطبيعية ، وحب الشرف والكرامة ، فصار كل من الزوجين وأقوامهما يماكسون في المهر كما يماكسون في سلع التجارة وإلى الله المشتكى .
وأما قولهم : لنا الظاهر والله يتولى السرائر فهو لا يصدق على مثل الحال المذكورة لأن باطن المرأة فيها معلوم غير مجهول ، فيدعي الأخذ بما ظهر منها ، والله - تعالى - لم يقل ( فإن أعطينكم ) حتى يقال حصل العطاء الذي ورد به النص ، وإنما ناط الحل بطيب نفوسهن عنه ، فلو لم يكن طيب النفس مما يمكن العلم به لما ناط - سبحانه - الحكم به ، فيقال لهؤلاء المحرفين : إذا كنتم تعلمون أن شرط جواز أكل ما تعطيه المرأة هو أن يكون عن طيب نفس منها ، وتعلمون أنها إنما أعطت ما أعطت كارهة أو مكرهة لما اتخذتموه من الوسائل ، فكيف تخادعون ربكم وتكابرون أنفسكم ؟