فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم أي ليعرف أمر رشدهم وتصرفهم ولتظهر براءة ذمتكم ولتحسم مادة النزاع بينكم ، قال : إذا دفع إلى اليتيم ماله ( أي عند بلوغ رشده ) فليدفعه إليه بالشهود كما أمر الله - تعالى - . وهذا الإشهاد واجب كما هو ظاهر الأمر ، وعليه الشافعية ، والمالكية . وقال الحنفية : إنه غير واجب بل مندوب ، وقال الأستاذ الإمام : ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الأمر بالإشهاد أمر إرشاد لا أمر وجوب ، وهم متفقون على أن الأوامر المارة كلها للإيجاب القطعي ، والنواهي كلها للتحريم ، وظاهر السياق أن هذا الأمر مثل ما سبقه ، ولعل السبب فيما قاله الفقهاء هو أن الناس تهاونوا بأمر الإشهاد وأهملوه من زمن بعيد ، فسهل ذلك على الفقهاء التأويل ، ورأوه أولى من تأثيم الناس وجعل أكثرهم مخالفين لما فرض عليهم ، ولا شك عندي أن الإشهاد حتم ، وأن تركه يؤدي إلى النزاع ، والتخاصم ، والتقاضي كما هو مشاهد ، فإذا فرضنا أن الناس كانوا في زمن ما مستمسكين بعروة الدين استمساكا عاما ، وكان اليتامى يحسنون الظن في الأولياء فلا يتهمونهم ، وأن الإشهاد لم يكن محتما عليهم لأجل هذا . أفليس هذا الزمن المعلوم مخالفا لذلك الزمن المجهول مخالفة تقتضي أن يجعل الإشهاد ضربة لازب لقطع عرق الخصام ونزوع النفس إلى النزاع والمشاغبة ؟ ابن عباس
وكفى بالله حسيبا أي وكفى بالله رقيبا عليكم وشهيدا يحاسبكم على ما أظهرتم وما أسررتم ، أو كفى بالله كافيا في الشهادة عليكم يوم الحساب . الحسب ( بسكون السين ) في الأصل : الكفاية ، وفسر الراغب الحسيب : بالرقيب ، وفسره : بالشهيد ، فهل هذان معنيان مستقلان أم من لوازم المعنى الأصلي ؟ قال الأستاذ الإمام : الحسيب : هو المراقب المطلع على ما يعمل العامل ، وإنما جاء بهذا بعد الأمر بالإشهاد القاطع لعرق النزاع ليدلنا على أن الإشهاد - وإن حصل ، وكان يسقط الدعوى عند القاضي بالمال - لا يسقط الحق [ ص: 321 ] عند الله إذا كان الولي خائنا ; إذ لا يخفى عليه - تعالى - ما يخفى على الشهود والحكام ، وكأن هؤلاء الأوصياء الخبثاء الذين نعرفهم لم يسمعوا قول الله في ذلك قط ; فقد كثرت فيهم وفي غيرهم الخيانة وأكل أموال اليتامى ، والسفهاء والأوقاف بالحيل حتى إنه يمكنني أن أقول : إنه لا يوجد في القطر المصري عشرة أشخاص يصلحون للوصاية على اليتيم ، أو السفيه ، والوقف ، وقد نص الفقهاء على أن النظر على الوقف كالوصاية على اليتيم . فانظروا إلى هذه الدقة في الآية الكريمة من الأمر باختبار اليتيم ، ودفع ماله إليه عند بلوغه رشده ، ومن النهي عن أكل شيء منه بطرق الإسراف ومبادرة كبره ، ومن الأمر بالإشهاد عليه عند الدفع ، ثم التنبيه إلى مراقبة الله - تعالى - التي تتناول جميع ذلك . السدي
ومن مباحث اللفظ في الآية عنه : أن بعض النحاة يقولون : إن الباء الداخلة على لفظ الجلالة في قوله : وكفى بالله زائدة ، والمعنى كفى الله حسيبا ، وبعضهم يقول : إن الفاعل مصدر محذوف ، والباء حرف جر أصلي متعلق به ، وهذا كله من تطبيق القرآن على القواعد التي وضعوها - أو قال قعدوها - ونحن نقول : إن المعنى مع وجود الباء هو غير المعنى مع عدمها ، فلها معنى في الكلام كيفما أعربت ، وإن ( كفى ) فعل ليس له فاعل ، والجار متعلق به ، ومعناه أن الله - عز وجل - هو أشد من يراقب ويحاسب . وهذه الجملة من فرائد البلاغة المسموعة التي لا تحتذى ، ولا يؤتى بمثل لها قد جاءت على هذه الكيفية النادر مثلها في حسنها ، فلا يمكن تطبيقها على القواعد الموضوعة للكلام المعروف عند جميع العرب الدائر على ألسنة أهل الفصاحة والفهاهة على السواء .
أقول : ويحسن أن نذكر هنا ما قاله عند الكلام على ( حتى ) الابتدائية ، وما فيها من معنى الغاية - كما تقدم - وهو أن القواعد النحوية ، ونحوها ( كقواعد البيان ) ، وضعت بعد وضع اللغة لا قبلها ، فلا يمكن أن تكون عامة شاملة لكل كلام . ولكن النحاة حاولوا إدخال كل الكلام في قواعدهم ، وكان يجب أن يقولوا كما قال بعض أهل اللغة في بعض الكلام النادر الاستعمال : إنه ورد هكذا على غير القاعدة التي وضعناها فهو نظم سماعي يحفظ في اللغة ، ولا يقاس عليه .
وأقول : إن ما جاء على خلاف المشهور الشائع الذي وضعت له القواعد قسمان : قسم شاذ جرى على ألسنة بعض بلداء الأعراب لا حسن فيه ، وقسم كالدرر اليتيمة انفرد به بعض البلغاء ، فكان له أحسن تأثير في الكلام ، ويوجد كل من القسمين في كل لغة ، وما يوجد منه في كلام الله - عز وجل - هو أعلاه ، وأبلغه .