هاتان الآيتان هما أساس الحكومة الإسلامية ، ولو لم ينزل في القرآن غيرهما لكفتا المسلمين في ذلك إذا هم بنوا جميع الأحكام عليهما ، وقد ذكر لنزولهما أسبابا ، وصرحوا بأن [ ص: 137 ] السبب الخاص لا يخصص عموم الخطاب ، قال في لباب النقول : أخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح عن قال : " ابن عباس مكة دعا فلما أتاه قال : أرني المفتاح ـ أي مفتاح عثمان بن طلحة الكعبة ـ فلما بسط يده إليه قام العباس فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجمعه لي مع السقاية فكف عثمان يده ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : هات المفتاح يا عثمان ، فقال : هاك أمانة الله ، فقام ففتح الكعبة ، ثم خرج فطاف بالبيت ، ثم نزل عليه جبريل برد المفتاح ، فدعا فأعطاه المفتاح ، ثم قال : عثمان بن طلحة إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها حتى فرغ من الآية . لما فتح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وأخرج شعبة في تفسيره عن حجاج ، عن ، قال : " ابن جريج عثمان بن طلحة ، أخذ منه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مفتاح نزلت هذه الآية في الكعبة ، فدخل به البيت يوم الفتح فخرج وهو يتلو هذه الآية ، فدعا عثمان فناوله المفتاح " ، قال : وقال : " ما سمعته يتلوها قبل ذلك عمر بن الخطاب " ، قلت : ظاهر هذا أنها نزلت في جوف الكعبة اهـ .
أقول : بل الظاهر أنها نزلت قبل فتح مكة ، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تلاها يومئذ استشهادا ، وإن لم يتذكر عمر أنه سمعها قبل ذلك ، إن صحت الرواية وصح أن عمر قال ذلك ، فقد صح عنه أنه ذهل عند وفاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عما ورد في ذكر موته حتى قرأ أبو بكر : وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ( 3 : 144 ) ، الآية فتذكر ، وذهل عن آية : وآتيتم إحداهن قنطارا ( 4 : 20 ) ، حتى ذكرته بها المرأة التي راجعته في مسألة تحديد المهور ـ كما تقدم في أوائل هذه السورة ـ وكل أحد عرضة للنسيان والذهول ، والرواية عن لا تصح وإن اعتمدها الجلال ، فقد ذكرنا من قبل أن المحدثين قالوا : إن أوهى طرق التفسير عن ابن عباس هي طريق ابن عباس الكلبي ، عن أبي صالح ، قالوا : فإن انضم إليها مروان الصغير فهي سلسلة الكذب ، وأما رواية شعبة ، عن حجاج فإن كان فقد كان ثقة ولكنه تغير في آخر عمره ، وهو ممن روى عن حجاج هذا هو المصيصي الأعور شعبة ، ولم يذكروا أن وابن جريج شعبة روى عنه ولكن شعبة روى عن حجاج الأسلمي وهو مجهول كما قال أبو حاتم .
وفي الروايتين بحث من جهة المعنى أيضا ، فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أولى بمفتاح الكعبة من ، ومن كل أحد ، فلو أعطاه عثمان بن طلحة للعباس أو غيره لم يكن فاعلا إلا ما له الحق فيه ، ومن أعطاه إياه يكون هو أهله وأحق به ، وليس هذا من باب : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ( 33 : 6 ) ، بل لأن الكعبة من المصالح العامة ، وإنما كان يكون من هذا الباب لو كان المفتاح مفتاح بيت نفسه ونزع ملكه منه وأعطاه آخر ، بل الحكام الآن في جميع الممالك ينزعون ملك من يرون المصلحة العامة في نزع ملكه منه ، ولكنهم يعطونه ثمنه شاء أم أبى . عثمان بن طلحة
[ ص: 138 ] الأستاذ الإمام : بعد ما بين الله تعالى لنا من شأن أهل الكتاب ما بينه ـ حتى تفضيلهم المشركين في الهداية على المؤمنين بالله وحده ، وبجميع كتبه ورسله ـ أدبنا بهذا الأدب العالي ، العامة ، وهي الاعتراف بالحق سواء كان الحق حسيا أو معنويا فقال : وأمرنا بالأمانة إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها فالكلام متصل بما قبله بمناسبة قوية تجعل السياق كعقد من الجوهر متناسب اللآلئ ، فسواء صح ما ذكر من حكاية مفتاح الكعبة أو لم يصح ، فإن صحته لا تضر بالتئام السياق ولا بعموم الحكم ، إذ السبب الخاص لا ينافي عموم الحكم .
والأمانة حق عند المكلف يتعلق به حق غيره ، ويودعه لأجل أن يوصله إلى ذلك الغير كالمال والعلم ، سواء كان المودع عنده ذلك الحق قد تعاقد مع المودع على ذلك بعقد قولي خاص صرح فيه بأنه يجب على المودع عنده أن يؤدي كذا إلى فلان مثلا ، أم لم يكن كذلك ، فإن ما جرى عليه التعامل بين الناس في الأمور العامة هو بمثابة ما يتعاقد عليه الأفراد في الأمور الخاصة ، فالذي يتعلم العلم قد أودع أمانة وأخذ عليه العهد بالتعامل والعرف بأن يؤدي هذه الأمانة ويفيد الناس ويرشدهم بهذا العلم ، وقد أخذ الله العهد العام على الناس بهذا التعامل المتعارف بينهم شرعا وعرفا بنص قوله : وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ( 3 : 187 ) ، ولذلك عد علماء أهل الكتاب خائنين بكتمان صفات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيجب على العالم أن يؤدي أمانة العلم إلى الناس ، كما يجب على من أودع المال أن يرده إلى صاحبه ، ويتوقف على تعرف الطرق التي توصل إلى ذلك ، فيجب أن تعرف هذه الطرق لأجل السير فيها ، وإعراض العلماء عن معرفة الطرق التي تتأدى بها هذه الأمانة بالفعل هو ابتعاد عن الواجب الذي أمروا به ، وإخفاء الحق بإخفاء وسائله هو عين الإضاعة للحق ، فإذا رأينا الجهل بالحق والخير فاشيا بين الناس واستبدلت به الشروع والبدع ، ورأينا أن العلماء لم يعلموهم ما يجب في ذلك فيمكننا أن نجزم بأن هؤلاء العلماء لا يؤدون الأمانة ، وهي ما استحفظوا عليه من كتاب الله ، ولا عذر لهم في ترك استبانة الطريق الموصل إلى ذلك بسهولة وقرب ، فهم خونة الناس وليسوا بالأمناء . أداء أمانة العلم
أقول : يعني رحمه الله تعالى أنه يجب على العلماء أن يعرفوا الطرق التي تؤدي إلى إيصال العلم إلى الناس وقبوله ، وهذه الطرق تختلف باختلاف الزمان والمكان كما تختلف الطرق التي تؤدى بها أمانة المال ، ففي هذا العصر تؤدى الأموال إلى أصحابها بطرق لم تكن معروفة في العصور السابقة ، منها التحويل على مصلحة البريد ، ومنها المصارف ومنها غير ذلك .
وكذلك توجد طرق لنشر العلم بين الناس أسهل من الطرق السابقة ، فمن أبى سلوكها لا يعذر بعدم تأديته لأمانة العلم النافع ، وأكثر العلماء المتأخرين يقولون : إنه لا يجب على العالم أن يتصدى لتعليم الناس ، وإنما يجب عليه أن يجيب إذا سئل ، وربما قيدوا هذا بما إذا فقد [ ص: 139 ] من يقوم مقامه في الإفتاء ، وإنما قال مثل هذا من قاله من المتقدمين في المسائل الخاصة التي يحتاج إليها عند وقوع الوقائع ، فأما ما لا بد منه ولا يسع الناس جهله من العقائد والواجبات وأحكام الحلال والحرام ، فلم يشترط أحد فيه هذا الشرط ; ولذلك اتفقوا على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم يقيدوه بالاستفتاء ، والمجهول لا تتوجه النفوس إلى السؤال عنه ، أفيترك الجاهلون بالسنن العاملون بالبدع حتى يطرقوا أبواب العلماء في بيوتهم أو مدارسهم ، مع العلم بأنهم لا يفعلون ؟ !
ولا يخرج علماء الدين من تبعة الكتمان والخيانة في أمانة الله بتصديهم لتدريس كتب الفقه والعقائد ، فإن هذه الكتب لا تفهمها العامة ولا تجب عليها معرفتها ; لأنها وضعت للمنقطعين للعلم يستعينون بها على القضاء والإفتاء في المسائل التي لا يحتاج إليها كل الناس دائما ، ومنها ما تمر الأعصار ولا يقع ، بل منها ما يستحيل وقوعه ، فيجب على العلماء أن يتصدوا لتعليم الجمهور ما لا يسع أحدا منهم جهله وأن يأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر من أقرب الطرق وأسهلها ، وإنما يعرف ذلك بالتجربة والاختبار ، ولله در الشاعر الذي قال :
لو صح منك الهوى أرشدت للحيل