المسألة السادسة : القياس الأصولي    : 
عرفه ابن السبكي  ـ تبعا للباقلاني  ـ بأنه حمل معلوم على معلوم لمساواته في علة حكمه ، وابن الحاجب  تبعا للآمدي  مساواة فرع الأصل في علة حكمه ، وفيه خلاف ، فمنعه  ابن حزم  في الأحكام الشرعية مطلقا ، وابن عبدان  إلا في حال الضرورة ، ومنع داود  غير الجلي منه ، ومنعه أبو حنيفة  في الحدود والكفارات والرخص والتقديرات ، وقوم   [ ص: 171 ] في الأسباب والشروط والموانع ، وقوم في أصول العبادات ، صرح بذلك كله في جمع الجوامع وعلى الأخير الأستاذ الإمام ، وأركان القياس  عندهم أربعة : 
1 - الأصل المشبه به ، أي : المقيس عليه . 
2 - حكم الأصل ، قالوا : ومن شرطه أن يثبت بغير القياس . 
3 - الفرع المشبه بالأصل وهو المقيس ، ومن شرطه وجود تمام علة حكم الأصل فيه . 
4 - العلة ، قالوا : وهي المعرف للحكم . 
أقول : وفيها معترك الأنظار ، فمنها ما هو بديهي ككون الإسكار هو علة تحريم الخمر ، ومنها ما لا يدل عليه عقل ، ولا نقل ، كالأقوال المشهورة في علة تحريم الربا    : الكيل والوزن والطعم ، وقد اكتفى الحنفية في العلة بأي نوع من التشبيه ، والحنابلة على أنه لا بد من علة معينة تجمع بين الفرع والأصل حتى يجوز الرد والحمل وهو الأقرب ، ولا يظهر حمل الأمر برد المتنازع فيه إلى الله والرسول على عرضه على مثل تلك العلل والتشبيهات التي لا نص عليها في كتاب ولا في السنة ولا هي متبادرة منهما ، على أن ذلك لا يزيل التنازع ، بل ربما يزيده ، وإذا امتنع هذا وامتنع أن يكون المراد محصورا في طلب النصوص في نفس الشيء المتنازع فيه ، تعين أن يكون المراد ما قلناه من قبل ، وهو ما يشمل رده إلى مقاصدهما أو قواعدهما العامة وما يتبادر من علل الأحكام فيهما بحيث لا يكون للتنازع فيه مجال . 
هذا والظاهر من تعريف الأصوليين للاجتهاد والمجتهد  أنه لا يشترط فيه عندهم الإحاطة بما يمكن معرفته من الأحاديث ، بل صرح بعضهم بأن سنن أبي داود  كافية لما ينبغي العلم به منها ، ويؤيد ذلك عمل الصحابة وقضاتهم ، فقد كان الخلفاء الراشدون يسألون عن السنة وقضاء النبي من حضر ولا يستقصون في الطلب ، فإن لم يجدوا عملوا بالرأي الذي مناطه المصلحة ، كما فعل عمر  وأصحابه في واقعة الوباء قبل أن يخبرهم  عبد الرحمن بن عوف  بما عنده فيها من الحديث المرفوع ، ولكن طلب النصوص من الكتب الآن أسهل من طلبه من الناس قبل تدوين الحديث . 
قال ابن تيمية    : هل يجوز الحكم بالقياس قبل الطلب التام للنصوص  ؟ هذه المسألة لها ثلاث صور : 
الأولى : الحكم به قبل طلبه من النصوص المعروفة ، وهذا لا يجوز بلا تردد . 
الثانية : الحكم به قبل الطلب من نصوص لا يعرفها مع رجاء الوجود لو طلبها ، فهذه طريقة الحنفية تقتضي جوازه ، ومذهب  الشافعي  وأحمد  وفقهاء الحديث أنه لا يجوز ،   [ ص: 172 ] ولهذا جعلوا القياس بمنزلة التيمم ، وهم لا يجيزون التيمم إلا إذا غلب على الظن عدم الماء فكذا النص ، وهو معنى قول  الإمام أحمد    : ما تصنع بالقياس ، وفي الحديث ما يغنيك عنه ! وهذه المسألة أم في الفرق بين أهل الحديث وبين أهل الرأي ، لكن يتفاوت أهل الحديث في طلب النصوص وطلب الحكم منها ، وهذه المسألة تشبه جواز الاجتهاد بحضور النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ  ، وفيها لأصحابنا وجهان مع أن قول الحنفية هناك أنه لا يجوز ، لكن قد يقولون : وجود النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس بمنزلة وجود النص . 
الثالثة : إذا أيس من الظفر بنص بحيث يغلب على الظن عدمه فهناك يجوز بلا تردد ، اهـ . 
				
						
						
