ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا قال الأستاذ الإمام : أي أن الشيطان ـ الذي هو داعية الباطل والشر في نفس الإنسان ـ يريد أن يجعل بينهم وبين الحق مسافة بعيدة فيكون ضلالهم عنه مستمرا ؛ لأنهم لشدة بعدهم عنه لا يهتدون إلى الطريق الموصلة إليه .
قيل له : فما تقول في هذه المحاكم الأهلية والقوانين ؟ قال : تلك عقوبة عوقب بها المسلمون أن خرجوا عن هداية قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول فإذا كنا قد تركنا هذه الهداية للقيل والقال وآراء الرجال من قبل أن نبتلى بهذه القوانين ومنفذيها ، فأي فرق بين آراء فلان وآراء فلان وكلها آراء منها الموافق لنصوص الكتاب والسنة ، ومنها المخالف لها ؟ ونحن الآن مكرهون على التحاكم إلى هذه القوانين ، فما كان منها يخالف حكم الله تعالى يقال فيه ، أي : في أهله : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ( 16 : 106 ) ، الآية ، وانظر إلى ما هو موكول إلينا إلى الآن كالأحكام الشخصية والعبادات والمعاملات بين الوالدين والأولاد والأزواج والزوجات فهل نرجع في شيء من ذلك إلى الله ورسوله ؟ إذا تنازع عالمان منا في مسألة ، فهل يردانها إلى الله ورسوله أم يردانها إلى قيل وقال ؟ فهذا يقول : قال الحمل ، وهذا يقول : قال الصاوي ، وفلان وفلان ، انتهى ما كتبه عنه في الدرس وكتبت في آخره يومئذ " يحرر الموضوع " ومراده ظاهر ، فإنه يقول : إنه لا قول لأحد في قضية أو مسألة مع وجود نص فيها مما أنزله الله تعالى على رسوله ، أو ما قضى به ـ صلى الله عليه وسلم ـ بإذن الله عز وجل ، والمسلمون قد تركوا ما جرى عليه السلف من النظر في كل قضية في كتاب الله أولا ، ثم في سنة رسوله وفي رد المتنازع فيه إليهما ، بل عملوا بآراء الناس الذين ينتمون إليهم ، ويسمونهم علماء مذاهبهم ، وإن وجد نص الكتاب أو السنة مخالفا له ، ويحرمون الرجوع إلى هذه النصوص ؛ لأن ذلك من الاجتهاد الممنوع عندهم الذي يعد المتصدي له ضالا مضلا في نظرهم ، وقد ترتب على هذا الذنب الذي هو اجتناب تقديم الكتاب والسنة على كل قول ورأي أن سلس المسلمون لحكامهم في مثل مصر ، حتى انتقلوا بهم من الحكم يقول فلان وفلان من الذين يسمونهم أهل الفقه ويأخذون بما في كتبهم ابتداء ـ وافق [ ص: 184 ] نصوص الكتاب والسنة ، أم خالفها ـ إلى الحكم بقول فلان وفلان من واضعي القوانين ، ولم يكن المتحاكمون إلى رجال القانون أسوأ حالا من المتحاكمين إلى أقوال الفقهاء ، وهم الآن أقدر على تحكيم الكتاب والسنة في عباداتهم ومعاملاتهم فيما بينهم ، وفي محاكمهم الشرعية منهم على تحكيمها في المعاملات المدنية والعقوبات ; لأنهم في هذا تحت سيطرة الأجانب الأقوياء ، وأما في ذاك فليسوا تحت سيطرة أجنبية ، فإذا أراد علماؤهم وأهل الرأي والمكانة فيهم ذلك نفذ ، ولكنهم لا يريدون والذين يضعون هذه القوانين المصرية يوافقون في أكثرها الشرع ويبنون رأيهم على المصلحة العامة بحسب ما يصل إليه علمهم ، ولكنهم لا يلصقون رأيهم بالشرع كالفقهاء ، ومراعاة المصلحة من مقاصد الشرع في المنصوص وفي الموكول إلى الرأي ، والناس يقبلون آراء المنسوبين إلى الفقه ، ولو فيما يخالف نصوص الكتاب والسنة ; لأنهم يلصقونها بالشرع من حيث يدعون أنها اجتهاد صحيح مبني على أصوله ، ولكن لا اجتهاد مع النص ، وربما كان العامل بالرأي ـ لا يسميه دينا ـ أقل جناية على الشرع ممن يعمل بالرأي يسميه دينا ، ولا سيما مع وجود النص .
وجملة القول : أنه ما كان للمسلمين أن يقبلوا قول أحد ، أو يعملوا برأيه في شيء له حكم في كتاب الله أو سنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الثابتة ، إلا فيما رخص الله تعالى فيه من أحكام الضرورات والحاجات ، وما لا حكم فيهما فالعمل فيه برأي أولي الأمر في كل زمن بشرطه أولى من العمل دائما برأي بعض المؤلفين لكتب الفقه في القرون الخالية ; لأنه أقرب إلى المصلحة ، هذا هو ما كان يريده رحمه الله تعالى في العبارة التي قالها في درسه بالأزهر ، وما كان يعتقده ، نعم إن ، وعللها حتى لا يخالفوها وليتيسر لهم رد المتنازع فيه إليها ، والأستاذ الإمام يقول بهذا أيضا . من يضعون الأحكام لما لا نص فيه يشترط في الإسلام أن يكونوا عالمين بالنصوص ومقاصد الشريعة