أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا .
ابتدأ هذه الآيات بالفاء لوصلها بما سبقها ، إذ السياق لا يزال جاريا في مجراه من أحكام القتال ، والضعفاء فيه ، ومن المنافقين من كان ينافق بإظهار الإسلام فتخونه أعماله كما تقدم ، ومنهم من كان ينافق بإظهار الولاء للمؤمنين والنصر لهم وهم بعض [ ص: 260 ] المشركين - وكذا بعض أهل الكتاب - وهذه الآيات في المنافقين في إبان الحرب بإظهار الولاء والمودة والإيمان في غير دار الهجرة ، ورد في أسباب نزولها روايات متعارضة روى الشيخان وغيرهما عن وذكر شئون المنافقين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن ثابت أحد فرجع ناس كانوا خرجوا معه ، فكان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فيهم فرقتين : فرقة تقول نقتلهم ، وفرقة تقول لا ، فأنزل الله - تعالى - : فما لكم في المنافقين فئتين ، وأخرج خرج إلى سعيد بن منصور عن وابن أبي حاتم قال : سعد بن معاذ : إن كان من سعد بن معاذ الأوس قتلناه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فأطعناك ، فقام فقال : ما لك يا سعد بن عبادة ابن معاذ طاعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولقد عرفت ما هو منك .
فقام فقال : إنك يا أسيد بن حضير ابن عبادة منافق وتحب المنافقين ، فقام محمد بن مسلمة ، فقال : اسكتوا أيها الناس فإن فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يأمرنا فننفذ أمره ، فأنزل الله - تعالى - : فما لكم في المنافقين فئتين الآية . خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس فقال : " من لي بمن يؤذيني ويجمع في بيته من يؤذيني ؟ " ، فقال
وأخرج أحمد عن عبد الرحمن بن عوف بالمدينة فأسلموا وأصابهم وباء المدينة وحماها فأركسوا وخرجوا من المدينة فاستقبلهم نفر من الصحابة فقالوا لهم : ما لكم رجعتم ؟ قالوا : أصابنا وباء المدينة ، فقالوا : أما لكم في رسول الله أسوة حسنة ؟ فقال بعضهم : نافقوا ، وقال بعضهم : لم ينافقوا ، فأنزل الله الآية ، وفي إسناده تدليس وانقطاع ، انتهى من لباب النقول أن قوما من العرب أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للسيوطي ، والمراد بالذي يؤذي النبي في حديث هو سعد بن معاذ عبد الله بن أبي رئيس المنافقين وما كان منه في قصة الإفك ، وروي عن ابن عباس وقتادة أنها نزلت في قوم بمكة كانوا يظهرون الإسلام ويعينون المشركين على المسلمين ورجحها بعضهم حتى على رواية الشيخين بذكر المهاجرة في الآية الثانية .
وروي عن في التفسير عن ابن جرير بعد ذكر سنده عن طريق ابن عباس محمد بن سعد قوله : فما لكم في المنافقين فئتين وذلك أن قوما كانوا بمكة فقد تكلموا بالإسلام وكانوا يظاهرون المشركين فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم فقالوا : إن لقينا أصحاب محمد - عليه السلام - فليس علينا منهم بأس ، وأن المؤمنين لما أخبروا خرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم قالت فئة من المؤمنين : اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم ، وقالت فئة أخرى من المؤمنين : سبحان الله - أو كما قالوا - تقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارهم ، تستحل دماؤهم وأموالهم لذلك ؟ ! فكانوا كذلك فئتين ، والرسول - عليه الصلاة والسلام - عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء فنزلت ، وذكر الآية ، وهذا لا يدل على أن أولئك القوم قد أسلموا بالفعل كما توهمه [ ص: 261 ] عبارة بعض الناقلين ، وروى عن ابن جرير قال : بلغني معمر بن راشد أن ناسا من أهل مكة كتبوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم قد أسلموا وكان ذلك منهم كذبا ، فلقوهم فاختلف فيهم المسلمون فقالت طائفة : دماؤهم حلال ، وقالت طائفة : دماؤهم حرام ، فأنزل الله الآية .
وروي أيضا عن الضحاك قال : هم ناس تخلفوا عن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا فاختلف فيهم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتولاهم ناس وتبرأ من ولايتهم آخرون ، وقالوا : تخلفوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يهاجروا فسماهم الله منافقين ، وبرأ المؤمنين من ولايتهم وأمرهم ألا يتولوهم حتى يهاجروا .
ثم ذكر روايات من قال : إنها نزلت في منافقين كانوا في ابن جرير المدينة وأرادوا الخروج منها معتذرين بالمرض والتخمة ، ومن قال : إنها نزلت في أهل الإفك ، ثم رجح قول من قالوا : إنها نزلت في قوم من مكة ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم لذكر الهجرة في الآية .
ومن المعهود أنهم يجمعون بين الروايات في مثل هذا بتعدد الوقائع ونزول الآية عقبها ، ولا يمنعهم من هذا أن يكون بين الوقائع تراخ وزمن طويل ، وأقرب من ذلك أن يحملها كل على واقعة يرى أنها تنطبق عليها من باب التفسير لا التاريخ ، ولكن من الروايات ما يكون نصا أو ظاهرا في التاريخ وتعيين الواقعة ، إلا أن تكون الرواية منقولة بالمعنى كما هو الغالب ، وحينئذ تكون الرواية في سبب النزول ليست أكثر من فهم للمروي عنه في الآية ورأي في تفسيرها يخطئ فيه ويصيب ، ولا يلزم أحدا أن يتبعه فيه ، بل لمن ظهر له خطؤه أن يرده عليه ، ولا سيما إذا كان ما يتبادر من معنى الآيات يأباه ، وقد رأيت أن بعضهم رد رواية الصحيحين في جعل المراد بالمنافقين هنا فئة عبد الله بن أبي ابن سلول أحد ، واستدلوا بما رأيت من ذكر المهاجرة في الآية الثانية ، ويمكن تأويل هذا اللفظ بما تراه ، وأقوى منه في رد هذه الرواية ، وما دونها في قوة السند من سائر الروايات - أي التي جعلت الآية في منافقي الذين رجعوا عن القتال في المدينة - أن الأحكام التي ذكرت في هذه الآيات لم يعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - بها في أحد ممن قالوا إنها نزلت فيهم وهو قتلهم حيثما وجدوا بشرطه ، وهذه آية من آيات صد بعض الروايات الصحيحة السند عن الفهم الصحيح الذي يتبادر من الآيات بلا تكلف ، ورجح وغيره رواية ابن جرير - رضي الله عنه - في نزول هذه الآية في أناس كانوا ابن عباس بمكة يظهرون الإسلام خداعا للمسلمين وينصرون المشركين ، وقال الأستاذ الإمام - رحمه الله تعالى - : إنها نزلت في المنافقين في الولاء والمخالفة وهذه عبارته في الدرس :
[ ص: 262 ] الفاء في قوله تعالى : فما لكم في المنافقين فئتين تشعر بارتباط الآية بما قبلها ، وزعم بعضهم أن الفاء للاستئناف ، وهذا لا معنى له ، وإنما يخترع الجاهل تعليلات ومعاني لما لا يفهمه ، وقد يخترع الروايات كما صرح به في غير موضع ، فالآية مرتبطة بما قبلها أشد الارتباط إذ الكلام السابق كان في أحكام القتال حتى ما ورد في الشفاعة الحسنة والسيئة ، وقد ختمه بقوله : الله لا إله إلا هو إلخ ، أي : لا إله غيره يخشى ويخاف أو يرجى فتترك تلك الأحكام لأجله ، ثم جاء بهذه الآيات موصولة بما قبلها بالفاء وهي تفيد تفريع الاستفهام الإنكاري فيها على ما قبله ، أي : إذا كان الله - تعالى - قد أمركم بالقتال في سبيله وتوعد المبطئين عنه والذين تمنوا تأخير كتابته عليهم ، وإذا كان لا إله غيره فيترك أمره وطاعته لأجله فما لكم تترددون في أمر المنافقين وتنقسمون فيهم إلى فئتين ؟