فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن ، أي فإن كان المقتول من أعدائكم والحال أنه هو مؤمن كالحارث بن يزيد ، كان من قريش وهم أعداء للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين يحاربونهم ، وقد آمن ولم يعلم المسلمون بإيمانه لأنه لم يهاجر وإنما قتله عياش في حال خروجه مهاجرا لأنه لم يعلم بذلك ومثله كل من آمن في دار الحرب ولم يعلم المسلمون بإيمانه إذا قتل فتحرير رقبة مؤمنة ، أي : فالواجب على قاتله عتق رقبة من أهل الإيمان فقط ، ولا تجب الدية لأهله لأنهم أعداء محاربون ، فلا يعطون من أموال المسلمين ما يستعينون به على عداوتهم وقتالهم ، وقيل : إن ديته واجبة لبيت المال ، ولو صح هذا لما سكت عنه الكتاب في معرض البيان .
وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق ، وهم المعاهدون لكم على السلم لا يقاتلونكم ولا تقاتلونهم ، كما عليه الدول في هذا العصر ، كلهم معاهدون قد أعطى كل منهم للآخرين ميثاقا على ذلك ، وهو ما يعبر عنه بالمعاهدات وحقوق الدول ومثلهم أهل الذمة بعموم الميثاق أو بقياس الأولى فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة ، أي فالواجب في هو كالواجب في قتل المؤمن : دية مسلمة إلى أهله تكون عوضا في حقهم ، وعتق رقبة مؤمنة كفارة عن حق الله - تعالى - الذي حرم قتل الذميين والمعاهدين ، كما حرم قتل المؤمنين ، وقد نكر الدية هنا كما نكرها هناك ، وظاهره أنه يجزئ كل ما يحصل به التراضي ، وأن للعرف العام والخاص حكمه في ذلك ولا سيما إذا ذكر في عقد الميثاق أن من قتل تكون ديته كذا وكذا ، فإن هذا النص أجدر بالتراضي وأقطع لعرق النزاع ، وسيأتي ما ورد من الروايات المرفوعة والآثار في ذلك . قتل المعاهد والذمي
وقد قدم هنا ذكر الدية ، وأخر ذكر الكفارة ، وعكس في قتل المؤمن ، ولعل النكتة في ذلك الإشعار بأن حق الله - تعالى - في معاملة المؤمنين مقدم على حقوق الناس ، ولذلك استثنى هنالك في أمر الدية فقال : إلا أن يصدقوا ; لأن ، والله يرغبهم فيما يليق بكرامتهم ومكارم أخلاقهم ، ولم يستثن هنا ; لأن من شأن المعاهدين المشاحة والتشديد في حقوقهم ، وليسوا مذعنين لهداية الإسلام فيرغبهم كتابه في الفضائل والمكارم وثم نكتة أخرى وهو أن في سماح المعاهد للمؤمن بالدية منة عليه ، والكتاب العزيز الذي وصف المؤمنين بالعزة لا يفتح لهم باب هذه المنة ، ومن محاسن نظم الكلام [ ص: 273 ] وتأليفه أن يؤخر المعطوف الذي له متعلق على ما ليس له متعلق ، وما متعلقاته أكثر على ما متعلقاته أقل ، وهذه نكتة لفظية لتأخير ذكر الدية في حق المؤمن إذ تعلق بها الوصف وهو قوله : من شأن المؤمن العفو والسماح مسلمة إلى أهله ، والاستثناء وهو قوله : إلا أن يصدقوا .
ثم إنه لم يقل هنا في الدية " مسلمة إلى أهله " ، ويدل ذلك على أن القاتل لا يكلف أن يوصل الهدية إلى أهل المقتول ألبتة وهم في غير حكم المسلمين ; إذ ربما يتعذر أو يتعسر عليه ذلك ، ولأنها حق لهم فعليهم أن يحضروا لطلبه وأخذه ، وقد يكون من شروط العهد أن تعطى إلى رؤساء قوم المقتول وحكامهم الذين يتولون عقد العهود والمواثيق ، أو إلى من ينيبونه عنهم في دار الإسلام ، فوسع الله في ذلك ، هذا ما ظهر لي في هذه الإطلاقات والقيود ونكتها ولم أر من بينها .
هذا هو الذي تعطيه الآية في دية غير المسلم - إذا لم يكن محاربا - وناهيك به عدلا ، وقد اختلف الفقهاء في لاختلاف الرواية وعمل الصدر الأول فيه ، ففي حديث دية غير المسلمين عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : عمرو بن شعيب ، رواه عقل الكافر نصف دية المسلم أحمد وحسنه ، وفي لفظ : والترمذي " ، رواه " قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين أحمد والنسائي ، وحديث وابن ماجه عن أبيه عن جده فيه مقال معروف والجمهور على قبوله ، والمراد بالعقل الدية ; لأن الأصل فيها عند العرب الإبل تعقل في فناء دار أهل المقتول ، ولفظ الكافر في الحديث عام يشمل الكتابي وغيره ، ورواية أهل الكتابين لا تصلح لتخصيصه ولا لتقييده فإنها صادقة في نفسها ، ومفهوم اللقب ليس بحجة ، وفي رواية أخرى للحديث : عمرو بن شعيب . كانت قيمة الدية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهم ، ودية أهل الكتاب يومئذ النصف من دية المسلم
قال : وكان كذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبا فقال : إن الإبل قد غلت ، قال : ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق - الفضة - اثني عشر ألفا - أي من الدراهم - وعلى أهل البقرة مائتي بقرة ، وعلى أهل الشاء ألفي شاة ، وعلى أهل الحلل مائتي حلة ، قال : وترك دية أهل الذمة لم يرفعها فيما رفع من الدية ، رواه أبو داود .
وروى الشافعي والدارقطني والبيهقي عن وابن حزم ، قال : " كان سعيد بن المسيب عمر يجعل أربعة آلاف والمجوسي ثمانمائة " ، وفي إسناده دية اليهودي والنصراني ضعيف ، والمراد أربعة آلاف درهم وثمانمائة درهم ، والأربعة الآلاف هي نصف دية المسلم على ما كان عليه العمل في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وثلثها بحسب تعديل ابن لهيعة عمر ، ولذلك قال الشافعية : إن دية الذمي ثلث دية المسلم ، ثلثا عشر دية المسلم ، واحتجوا [ ص: 274 ] بأثر ودية المجوسي عمر وهو ضعيف ومعارض للحديث المرفوع ، ولو صح لما وجدنا له مخرجا إلا فهم عمر وغيره من الصحابة أن ما كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن حتما ، وأنهم علموا منه أن الأمر في الدية اجتهادي ومداره على التراضي كما أشرنا إلى ذلك في بيان ظاهر عبارة الآية .
وذهب الزهري والثوري وزيد بن علي وأبو حنيفة إلى أن دية الذمي كدية المسلم ، وروي عن أحمد أن ديته كدية المسلم إن قتل عمدا ، وإلا فنصف ديته ، واحتج القائلون بالمساواة بظاهر إطلاق الآية في أهل الميثاق ، وهم المعاهدون وأهل الذمة ، ونوزعوا في هذا الاحتجاج ، وبما رواه الترمذي عن وقال غريب : " ابن عباس ، وكان لهما عهد من النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يشعر به عمرو بن أمية الضمري عمرو - بدية المسلمين " ، وثم روايات أخرى عنه في ذلك ، وبما أخرجه إن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودى العامريين اللذين قتلهما البيهقي عن : الزهري أبي بكر وعمر وعثمان ، فلما كان إن دية اليهودي والنصراني كانت في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل دية المسلم وفي زمن معاوية أعطى أهل المقتول النصف في بيت المال ، ثم قضى بالنصف وألغى ما كان جعل عمر بن عبد العزيز معاوية .
وأجيب بأن حديث في إسناده ابن عباس أبو سعيد البقال وهو سعيد المرزبان ولا يحتج بحديثه ، وحديث مرسل ومراسيله لا يحتج بها ; لأنه - لسعة حفظه - لا يرسل إلا لعلة ، على أن هذا في المعاهد ، وحق الذمي أقوى من حق المعاهد لخضوعه لأحكامنا . الزهري
وجملة القول أن الروايات القولية والعملية مختلفة متعارضة ، ولذلك اختلف فيها الفقهاء وظاهر الآية أن ، والأقرب أن اختلاف السلف في العمل كان لأجل هذا . أمر الدية منوط بالعرف وبالتراضي
هذا ، وإن ظاهر الآية أن الدية على القاتل ، ولكن بينت السنة أن العاقلة هم الذين يدفعون الدية عنه سواء كانت إبلا أو نقدا ، وهم عصبته وعشيرته الأقربون - وتسمى العاقلة - الآن - العائلة بالهمزة وهو من تحريف العامة - وإنما ; لأن الخطأ قد يتكرر فيذهب بمال الرجل كله ولأجل تقرير التضامن بين الأقربين ، وإذا عجزت العاقلة من عصبة النسب ثم السبب عن دفعها جعلت في بيت المال ، والله أعلم . جعلت السنة الدية على العاقلة لا على القاتل
فمن لم يجد ، الرقبة التي يعتقها كأن انقطع الرقيق كما هو مقصد الإسلام ، - وهذه العبارة تشعر بهذا المقصد - أو لم يجد المال الذي يشتريها به من مالكها ليحررها من رقه - وحذف المفعول يدل على الأمرين معا فصيام شهرين متتابعين أي فعليه صيام شهرين قمريين متتابعين لا يفصل بين يومين من أيامهما إفطار في النهار ، فإن استأنف وكان ما صامه قبله كأن لم يكن ، ولم يفرض على من لا يستطيع الصيام إطعام مسكينا كما فرضه في كفارة الظهار ، وبعض الفقهاء يقيس هذه الكفارة [ ص: 275 ] على تلك ، ومنهم من لا يقيس أفطر يوما بغير عذر شرعي وهو الظاهر ، وما يدرينا أن هذا فرض قبل ذاك ، فلم يخطر في بال أحد ممن نزل في عهدهم أن للصيام بدلا على من عجز عنه وهو إطعام مسكين عن كل يوم . كالشافعي
توبة من الله ، أي شرع الله لكم ما ذكر توبة منه عليكم فهو يريد به أن يتوب عليكم لتتوبوا وتطهر نفوسكم من التهاون وقلة التحري التي تفضي إلى قتل الخطأ وكان الله عليما حكيما أي : عليما بأحوال نفوسكم وما يصلحها من التأديب ، حكيما فيما يشرعه لكم من الأحكام ، ويهديكم إليه من الآداب ، فإذا أطعتموه فيه صلحت نفوسكم وتزكت وصارت أهلا لسعادة الدنيا والآخرة .
بعد هذا أذكر ما عندي في الآية عن الأستاذ الإمام ، وهو بيان لروح الهداية فيها لا لأحكامها ومدلول ألفاظها ، فإنه استغنى عن هذا بشرح ما قاله الجلال فيه قال رحمه الله - تعالى - ما مثاله :
هذه الآية جاءت بعد أن ورد ما ورد في المذبذبين الذين أذن الله بقتلهم ، إلا من استثنى للتناسب ، وتتميم أحكام القتل ، فذكر هنا أن من شأن المؤمن ألا يقتل مؤمنا لأن الإيمان مانع ذلك وبيانه من وجهين ( أحدهما ) : أن المؤمن إنما يصح إيمانه ويكمل إذا كان يشعر بحقوق الإيمان عليه ، وهي حقوق لله وحقوق للعباد ، ومن حدود حقوق المؤمنين أن في القصاص حياة لما فيه من الزجر عن القتل ، فالمؤمن الصادق يشعر بهذا الحق وهذه الحياة ، وأنه إذا أخل بحقوق الدماء فقد استهزأ بحياة الأمة ، ومن استهزأ بحياة الأمة ولم يحترم أكبر حقوقها ، ولم يبال بما يقع فيه المؤمنون من الخطر فأمره معلوم ، فإنه باعتدائه على مؤمن قد هدم ركنا من أركان قوة الإيمان وحزبه ، وذلك آية عدم المبالاة بقوة الإيمان وقوامه ، والمؤمن غيور على الإيمان فلا يصدر منه ذلك أي ليس من شأنه أن يصدر عنه ، أقول : ويؤيد ما قاله الأستاذ قوله - تعالى - : من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ( 5 : 32 ) .
ثم ذكر ، وهو أن الخطأ فيه لا يخلو من التهاون وعدم العناية بالاحتياط ، ومثل الخطأ في هذا الأمر النسيان ، ولولا أن من شأنهما أن يعاقب الله عليهما لما أمرنا - تعالى - بالدعاء بألا يؤاخذنا عليهما بقوله في آخر سورة البقرة : سبب العقوبة على الخطأ في الأمور العظيمة كأمر القتل ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ( 2 : 286 ) ، ولم يخبرنا أنه رفع عنا المؤاخذة عليهما في الدنيا والآخرة ، وقد ثبت بنص القرآن أن آدم نسي ومع ذلك سميت مخالفته معصية وعوقب عليها ، ولكن ورد في الحديث : ، وهو معقول ولا ينافي ما قلناه فإن رفع عن أمتي الخطأ [ ص: 276 ] والنسيان وما استكرهوا عليه ، وهو " النفس بالنفس " ، وأما في الآخرة فلا يؤاخذنا بما نفعله مخالفا لأمره إذا نسينا أو أخطأنا فيرجى أن يستجيب الله دعاءنا . عقاب قتل الخطأ ليس هو عقاب قتل العمد
أقول : والحديث الذي ذكرناه ورد هكذا في كتب الفقه والأصول ، ولا يعرف بهذا اللفظ في كتب الحديث ، وقد رواه ابن ماجه بلفظ : وابن أبي عاصم وقد وثقوا رواته وصححه وضع الله عن هذه الأمة ثلاثا : الخطأ والنسيان والأمر يكرهون عليه . ابن حبان