كيفية صلاة الخوف في القرآن
قال - عز وجل - بعدما تقدم من الإذن بالقصر من الصلاة : وإذا كنت فيهم أي : وإذا كنت أيها الرسول في جماعتك من المؤمنين ، ومثله في هذا كل إمام في كل جماعة فأقمت لهم الصلاة ، إقامة الصلاة تطلق على الذكر الذي يدعى به إلى الدخول فيها وهو نصف ذكر الأذان وزيادة " قد قامت الصلاة " مرتين بعد كلمة حي على الفلاح كما ثبت في السنة الصحيحة ، وقيل : هو كالأذان مع زيادة ما ذكر ، وتطلق على الإتيان بها مقومة تامة الأركان والشرائط والآداب ، والظاهر هنا المعنى الأول ، لتعديته باللام ; ولأن الصلاة المبينة في الآية ليست تامة بل هي مقصور منها ، وتقابل صلاة الخوف هنا صلاة الاطمئنان المأمور بها في الآية التالية ، فمعنى أقمت لهم الصلاة دعوتهم إلى أدائها جماعة ، أي : والزمن زمن الحرب وفتنة الكفار مخوفة فلتقم طائفة منهم معك ، في الصلاة يقتدون بك ويبقى الآخرون مراقبين العدو يحرسون المصلين خوفا من اعتدائه وليأخذوا أسلحتهم ، أي : وليحمل الذين يقومون معك في الصلاة أسلحتهم ولا يدعوها وقت الصلاة لئلا يضطروا إلى المكافحة عقبها مباشرة أو قبل إتمامها فيكونوا مستعدين لها ، وعن أن ابن عباس أي جملة هو للطائفة الأخرى لقيامها بالحراسة ، وجوز الأمر بأخذ السلاح الزجاج والنحاس أن يكون للطائفتين جميعا أي وليكن المؤمنون حين انقسامهم إلى طائفتين واحدة تصلي وواحدة تراقب وتحرس - حاملين للسلاح لا يتركه منهم أحد ، ووجه تقديم الأول أن من شأن الجميع في مثل تلك الحال أن يحملوا أسلحتهم إلا في وقت الصلاة التي لا يكون فيها قتال ولا نزال ، فاحتيج إلى الأمر بحمل السلاح في الصلاة ; لأنه مظنة المنع أو الامتناع ، والأسلحة جمع سلاح وهو كل ما يقاتل به ، وإنما يحمل منه في حال إقامة الصلاة [ ص: 305 ] التامة الأركان ما يسهل حمله فيها كالسيف والخنجر والنبال من أسلحة الزمن الماضي ، ومثل البندقية على الظهر والمسدس في الحزام أو الجيب من أسلحة هذا العصر فإذا سجدوا ، أي : فإذا سجد الذين يقومون معك في الصلاة فليكونوا من ورائكم أي : فليكن الآخرون الذين يحرسونكم من خلفكم ، وأحوج ما يكون المصلي للحراسة ساجدا ; لأنه لا يرى حينئذ من يهم به ، أو عبر بالسجود عن الصلاة أي : إتمامها ; لأنه آخر صلاة الطائفة الأولى ، ويجب حينئذ أن يكون الباقون مستعدين للقيام مقامهم والصلاة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - كما صلوا ، وهو قوله ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ، أي : ولتأت طائفة الذين لم يصلوا لاشتغالهم بالحراسة فليصلوا معك كما صلت الطائفة الأولى : وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم في الصلاة كما فعل الذين من قبلهم ، وزاد هنا الأمر بأخذ الحذر وهو التيقظ والاحتراس من المخلوف ، وتقدم تحقيق القول فيه في تفسير قوله - تعالى - من هذه السورة بل من هذا السياق فيها ياأيها الذين آمنوا خذوا حذركم ( 71 ) ، قيل : إن حكمة الأمر بالحذر للطائفة الثانية هو أن العدو قلما يتنبه في أول الصلاة لكون المسلمين فيها ، بل يظن إذا رآهم صفا أنهم قد اصطفوا للقتال ، واستعدوا للحرب والنزال ، فإذا رآهم سجدوا علم أنهم في صلاة ، فيخشى أن يميل على الطائفة الأخرى عند قيامها في الصلاة ، كما يتربص ذلك بهم عند كل غفلة ، وقد بين - تعالى - لنا هذا معللا به الأمر بأخذ الحذر والسلاح حتى في الصلاة فقال : ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ، أي : تمنى أعداؤكم الذين كفروا بالله وبما أنزل عليكم لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم التي بها بلاغكم في سفركم بأن تشغلكم صلاتكم عنها فيميلون حينئذ عليكم ، أي : يحملون عليكم حملة واحدة وأنتم مشغولون بالصلاة واضعون للسلاح تاركون حماية المتاع والزاد ، فيصيبون منكم غرة فيقتلون من استطاعوا قتله ، وينتهبون ما استطاعوا أخذه ، فلا تغفلوا عنهم ، ولا تجعلوا لهم سبيلا عليكم ، وهذا الخطاب عام لجميع المؤمنين لا يختص الطائفة الحارسة دون المصلية وهو استئناف بياني على سنة القرآن في قرن الأحكام بعللها وحكمها .
ولما كان الخطاب عاما لجميع المحاربين ، وكان يعرض لبعض الناس من العذر ما يشق معه حمل السلاح ، عقب على العزيمة بالرخصة لصاحب العذر فقال : ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم ، أي : ولا تضييق عليكم ولا إثم في وضع أسلحتكم إذا أصابكم أذى من مطر تمطرونه فيشق عليكم حمل السلاح مع ثقله في ثيابكم ، وربما أفسد الماء السلاح ; لأنه سبب الصدأ ، أو إذا كنتم مرضى بالجراح أو غير الجراح من العلل ، ولكن يجب عليكم حتى في هذه الحال أن تأخذوا [ ص: 306 ] حذركم ولا تغفلوا عن أنفسكم ، ولا عن أسلحتكم وأمتعتكم ، فإن عدوكم لا يغفل عنكم ولا يرحمكم ، والضرورة تتقدر بقدرها إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا ، بما هداكم إليه من أسباب النصر ، كإعداد كل ما يستطاع من القوة وأخذ الحذر ، والاعتصام بالصلاة والصبر ، ورجاء ما عند الله من الرضوان والأجر ، فالظاهر أن العذاب ذا الإهانة هو عذاب الغلب وانتصار المسلمين عليهم إذا قاموا بما أمرهم الله - تعالى - به من الأسباب النفسية والعملية ، وسيأتي قريبا ما يؤيد هذا المعنى في هذا السياق كالأمر بذكر الله كثيرا وقوله : فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ( 4 : 104 ) ، ويؤيده قوله - تعالى - : قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ( 9 : 14 ) ، وقال جمهور المفسرين : إن المراد به عذاب الآخرة ، وإنه مع ذلك ينفي ما ربما يخطر في البال من أن الأمر بأخذ السلاح والحذر يشعر بتوقع النصر للأعداء .
روى أن الرخصة في الآية للمرضى ، نزلت في البخاري وكان جريحا ، والمعنى عندي أن الآية قد انطبق حكمها عليه ، وإلا فهي قد نزلت في سياق الآيات بأحكام أعم وأشمل ، وروى عبد الرحمن بن عوف أحمد والحاكم وصححه البيهقي في الدلائل عن ابن عياش الزرقي قال : عسفان فاستقبلنا المشركون وعليهم وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الظهر فقالوا : قد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ، ثم قالوا : يأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم ; فنزل خالد بن الوليد جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ، الحديث وروى كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الترمذي نحوه عن ، أبي هريرة نحوه عن وابن جرير جابربن عبد الله ، انتهى من لباب النقول . وابن عباس