وروى [ ص: 320 ] عن ابن جرير قتادة أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طعمة بن أبيرق ، وفيما هم به نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من عذره ، وبين الله شأن طعمة بن أبيرق ، ووعظ نبيه وحذره أن يكون للخائنين خصيما ، طعمة بن أبيرق رجلا من الأنصار ، ثم أحد بني ظفر سرق درعا لعمه كان وديعة عنده ، ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم يقال له زيد بن السمير ، فجاء اليهودي إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - يهتف ، فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ليعذروا صاحبهم ، وكان نبي الله - عليه السلام - قد هم بعذره حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل فقال : ولا تجادل إلخ ، وكان طعمة قذف بها بريئا ، فلما بين الله شأن طعمة نافق ولحق المشركين بمكة فأنزل الله فيه ومن يشاقق الرسول الآية . وكان
وروي عن أن هذه الآيات نزلت في نفر من ابن عباس الأنصار كانوا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض غزواته فسرقت لأحدهم درع فأظن بها رجلا من الأنصار ، فأتى صاحب الدرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إن طعمة بن أبيرق سرق درعي ، فأت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء وقال لنفر من عشيرته : إني قد غيبت الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عندهم ، فانطلقوا إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ليلا فقالوا : يا نبي الله ، إن صاحبنا بريء ، وإن سارق الدرع فلان ، وقد أحطنا بذلك علما فاعذر صاحبنا على رءوس الناس وجادل عنه فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبرأه أو عذره على رءوس الناس فأنزل الله إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق ، إلى قوله : وكيلا .
وروي عن ابن زيد أن رجلا سرق درعا من حديد وطرحها على يهودي فقال اليهودي : والله ما سرقتها يا أبا القاسم ، ولكن طرحت علي ، وكان للرجل الذي سرق جيران يبرئونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون : يا رسول الله هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وبما جئت به ، قال : حتى مال النبي - صلى الله عليه وسلم - ببعض القول ، فعاتبه الله - عز وجل - في ذلك فقال وذكر الآيات ثم قال في الرجل : ويقال : هو طعمة بن أبيرق .
وروي عن أنها السدي نزلت في طعمة بن أبيرق استودعه رجل من اليهود درعا فخانه فيها وأخفاها في دار أبي مليك الأنصاري ، وأهان طعمة وأناس من قومه اليهودي لما جاء يطلب درعه ، وجادلت الأنصار عن طعمة ، وطلبوا من النبي أن يجادل عنه إلخ ، وقد اختار أكثر المفسرين أن الخائن هو طعمة وأن اليهودي هو الذي كان صاحب الحق .
هذا ما ورد في سبب النزول ، وأما وجه الاتصال والتناسب بين هذه الآيات وما قبلها ، فقد قال فيه الإمام الرازي ما نصه :
في كيفية النظم وجوه الأول : أنه تعالى لما شرح أحوال المنافقين على سبيل الاستقصاء ، [ ص: 321 ] ثم اتصل بذلك أمر المحاربة ، واتصل بذكر المحاربة ما يتعلق بها من الأحكام الشرعية مثل قتل المسلم خطأ على ظن أنه كافر ، ومثل بيان صلاة السفر وصلاة الخوف ، رجع الكلام بعد ذلك إلى ، وذكر أنهم كانوا يحاولون أن يحملوا الرسول عليه الصلاة والسلام على أن يحكم بالباطل ويذر الحكم بالحق ، فأطلع الله رسوله عليه وأمره بألا يلتفت إليهم ولا يقبل قولهم في هذا الباب . أحوال المنافقين
والوجه الثاني في بيان النظم : أنه تعالى لما بين الأحكام الكثيرة في هذه السورة ، بين أن . كل ما عرف بإنزال الله - تعالى - ، وأنه ليس للرسول أن يحيد عن شيء منها ، طلبا لرضا قومه
الوجه الثالث : أنه تعالى لما أمر بالمجاهدة مع الكفار بين أن الأمر وإن كان كذلك لكنه لا تجوز الخيانة معهم ، ولا إلحاق ما لم يفعلوا بهم ، وأن كفر الكافر لا يبيح المسامحة بالنظر له ، بل الواجب في الدين أن يحكم له وعليه بما أنزل الله على رسوله ، وألا يلحق الكافر حيف لأجل أن يرضى المنافق بذلك اهـ .
وقال الأستاذ الإمام : بعد أن حذر الله المنافقين من أعداء الحق الذين يحاولون طمسه بإهلاك أهله ، أراد أن يحذرهم مما يخشى على الحق من جهة الغفلة عنه ، وترك العناية بالنظر في حقيقته وترك حفظه ، فإن إهمال العناية بالحق أشد الخطرين عليه ; لأنه يكون سببا لفقد العدل أو تداعي أركانه ، وذلك يفضي إلى هلاك الأمة ، وكذلك إهمال غير العدل من الأصول العامة التي جاء بها الدين ; فالعدو لا يمكنه إهلاك أمة كبيرة وإعدامها ، ولكن ترك الأصول المقومة للأمة كالعدل ، وغيره يهلك كل أمة تهمله ، ولذلك قال [ وذكر الآية الأولى ] .
أقول : أما اتصال الآيات بما قبلها مباشرة فالأقرب فيها ما قاله الأستاذ الإمام ، ويمكن بيانه بأنه - تعالى - لما أمر المؤمنين بأن يأخذوا حذرهم من الأعداء ، ويستعدوا لمجاهدتهم حفظا للحق أن يؤتى من الخارج ، أمرهم بأن يقوموا بما يحفظه في نفسه فلا يؤتى من الداخل ، وأن يقيموه على وجهه كما أمر الله - تعالى - ، ولا يحاربوا فيه أحدا ، وأما اتصالها بمجموع ما قبلها فقد علمنا مما مر أن أول السورة في أحكام النساء والبيوت إلى قوله - تعالى - : واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ( 4 : 36 ) ، ومن هذه الآية إلى هنا تنوعت الآيات بالانتقال من الأحكام العامة إلى مجادلة اليهود ، وبيان حالهم مع النبي - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين ، وتخلل ذلك الأمر بطاعة الله ورسوله والنعي على المنافقين الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت كاليهود وتأكيد الأمر بطاعة الرسول ، وبيان أنه - تعالى - لم يبعث رسولا إلا ليطاع ، والترغيب في هذه الطاعة ، ثم انتقل من ذلك إلى أحكام القتال وبيان حال المؤمنين والكافرين والمنافقين فيه ، وقد عاد في هذا السياق أيضا إلى تأكيد وحال المنافقين فيها ، فناسب أن ينتقل الكلام من هذا السياق إلى بيان ما يجب على الرسول نفسه أن يحكم به بعد ما حتم الله التحاكم إليه وأمره بطاعته [ ص: 322 ] فيما يحكم ويأمر به ، فكان هذا الانتقال في بيان واقعة اشترك فيها الخصام بين من سبق القول فيهم من أهل الكتاب والمنافقين الذين سبق شرح أحوالهم في الآيات السابقة فقال - عز وجل - : طاعة الرسول إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله أي : إنا أوحينا إليك هذا القرآن بتحقيق الحق وبيانه لأجل أن تحكم بين الناس بما علمك الله به من الأحكام فاحكم به ولا تكن للخائنين خصيما ، تخاصم عنهم وتناضل دونهم ، وهم طعمة وقومه الذين سرقوا الدرع وأرادوا أن يلصقوا جرمهم باليهودي البريء ، فهو كقوله - تعالى - في السورة الآتية : وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم ( 5 : 49 ) ، فالحق هو المطلوب في الحكم سواء كان المحكوم عليه يهوديا أو مجوسيا ، أو مسلما حنيفيا ، قال شيخ المفسرين : ابن جرير بما أراك الله ، يعني بما أنزل الله إليك في كتابه ولا تكن للخائنين خصيما ، يقول : ولا تكن لمن خان مسلما أو معاهدا في نفسه أو ماله خصيما تخاصم عنه وتدافع عنه من طالبه بحقه الذي خانه فيه اهـ ، وتسمية إعلامه - تعالى - لنبيه بالأحكام إراءة يشعر بأن علمه - صلى الله عليه وسلم - بها يقيني كالعلم بما يراه بعينه في الجلاء والوضوح .
وقال الأستاذ الإمام : هذه الجملة مستأنفة ، فعطفها على ما قبلها ليس من قبيل عطف المفرد على المفرد المشارك له في الحكم ، بل من قبيل عطف الجملة الابتدائية على جملة قبلها لارتباطهما بالمعنى العام ، والمعنى : ولا تتهاون بتحري الحق اغترارا بلحن الخائنين ، وقوة صلابتهم في الخصومة ; لئلا تكون خصيما لهم وتقع في ورطة الدفاع عنهم ، وهذا الخطاب ليس خاصا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ; بل هو عام لكل من يحكم بين الناس بما أنزل الله كما أمر الله ، أقول : ويؤيد قول الأستاذ الإمام حديث المتفق عليه في الصحيحين والسنن : أم سلمة . إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي بنحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار
ومن مباحث الأصول في هذه الآية مسألة ، وقد تقدم أن قوله - تعالى - : حكمه - صلى الله عليه وسلم - بالوحي فقط ، أو بالوحي تارة وبالاجتهاد أخرى أراك الله معناه : أعلمك علما يقينيا كالرؤية في القوة والظهور ، وما ذلك إلا الوحي الذي يفهم - صلى الله عليه وسلم - منه مراد الله فهما قطعيا ، وروي أن عمر - رضي الله عنه - كان يقول : " لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله - تعالى - ، فإن الله - تعالى - لم يجعل ذلك إلا لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ، وأما أحدنا فرأيه أن يكون ظنا لا علما " ، ذكره الرازي ثم قال :
إذا عرفت هذا فنقول : قال المحققون : هذه الآية تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان يحكم إلا بالوحي والنص ، ثم فرع عن ذلك أن الاجتهاد ما كان جائزا له ، وإنما [ ص: 323 ] يجب عليه الحكم بالنص ، وذكر أن الأمر باتباعه يقتضي تحريم القياس ، وعدم جوازه لولا أن أجيب عن ذلك بأن القياس ثبت بالنص أيضا .
وقال الإمام سليمان بن عبد القوي الطوفي الحنبلي في " كتاب الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية " : لتحكم بين الناس بما أراك الله ، يحتمل أن المراد بما نصه لك في الكتاب ، ويحتمل أن المراد بما أراكه بواسطة نظرك واجتهادك في أحكام الكتاب وأدلته ، وفيه على هذا دليل على وهي مسألة خلاف في أصول الفقه . أنه - عليه السلام - كان يجتهد فيما لا نص عنده فيه من الحوادث
" حجة من أجاز هذه الآية أن منصب كمال ، فلا ينبغي أن يفوته - صلى الله عليه وسلم - ، وقد دل على وقوعه منه قوله - صلى الله عليه وسلم - : " الاجتهاد في الأحكام لو قلت نعم لوجب ولو سمعت شعره قبل قتله لم أقتله " ، في قضيتين مشهورتين .
حجة المانع : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ( 53 : 3 ، 4 ) ، ولأنه قادر على يقين الوحي ، والاجتهاد لا يفيد اليقين لجوازه في حقه ، والحالة هذه كالتيمم مع القدرة على الماء .
" ثم على القول الأول ، وهو أن الاجتهاد جائز له ، هل يقع منه الخطأ فيه أم لا ؟ فيه قولان للأصوليين أحدهما : لا ، لعصمته ، والثاني : نعم بشرط ألا يقر عليه استدلالا بنحو عفا الله عنك لم أذنت لهم ( 9 : 43 ) ، و ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ( 8 : 67 ) ، ونحو ذلك .
ويتعلق بهذا مسألة التفويض ، وهو أنه هل يجوز أن يفوض الله - عز وجل - إلى نبي حكم أمة بأن يقول : احكم بينهم باجتهادك وما حكمت به فهو حق ، أو وأنت لا تحكم إلا بالحق ؟ فيه قولان : أقر بهما الجواز ، وهو قول من الأصوليين ; لأنه مضمون له إصابة الحق ، وكل مضمون له ذلك ، جاز له الحكم . موسى بن عمران
أو يقال : هذا التفويض لا محذور فيه ، وكل ما كان كذلك كان جائزا انتهى كلام الطوفي .
أقول : الآية في الحكم بكتاب الله لا في الاجتهاد ، ولكنها لا تدل على منع الاجتهاد ، ولا عليه أيضا وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ; لأن هذا في القرآن خاصة ، وإلا كان كل كلامه - عليه الصلاة والسلام - وحيا ، وقد ورد أن الوحي كان ينقطع أياما متعددة ، وأنه كان يسأل عن الشيء فينتظر الوحي ، كما كان يسأل أحيانا فيجيب من غير انتظار للوحي .
واستغفر الله قال : " وسله أن يصفح لك عن عقوبة ذنبك في مخاصمتك عن [ ص: 324 ] الخائن " ، وأورد ابن جرير الرازي في الاستغفار ثلاثة وجوه :
1 - لعله مال إلى نصرة ( طعمة ) لأنه في الظاهر من المسلمين .
2 - لعله هم أن يحكم على اليهودي عملا بشهادة قوم طعمة التي لم يكذبها شيء حتى نزل الوحي ، فعلم أنه لو حكم لوقع قضاؤه خطأ لبنائه على كذب القوم وزورهم ، وكل من هذين الأمرين مما يستغفر منه النبي - صلى الله عليه وسلم - والذنب فيه من قبيل قولهم : حسنات الأبرار سيئات المقربين .
3 - يحتمل أن المراد : واستغفر الله لأولئك الذين يذبون عن طعمة ويريدون أن يظهروا براءته ، انتهى ملخصا .
وقال الأستاذ الإمام واستغفر الله مما يعرض لك من شئون البشر من نحو ميل إلى من تراه ألحن بحجته ، أو الركون إلى مسلم لأجل إسلامه تحسينا للظن به ، فإن ذلك قد يوقع الاشتباه ، وتكون صورة صاحبه صورة من أتى الذنب الذي يوجب له الاستغفار ، وإن لم يكن متعمدا للزيغ عن العدل ، والتحيز إلى الخصم ، فهذا من زيادة الحرص على الحق ، كأن مجرد الالتفات إلى قول المخادع كاف إلى وجوب الاحتراس منه ، وناهيك بما في ذلك من التشديد فيه .
أقول : ظاهر الروايات أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مال إلى تصديق المسلمين وإدانة اليهودي لما كان يغلب على المسلمين في ذلك العهد من الصدق والأمانة ، وعلى اليهود من الكذب والخيانة ; ولذلك قال العلماء في القديم والحديث : إن أولئك المسلمين ، لم يكونوا إلا منافقين ; لأن مثل عمل طعمة وتأييد من أيده فيه لا يصدر عمدا إلا من منافق ، وتبع ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - ود لو يكون الفلج بالحق في الخصومة للمسلمين الذين يرجح صدقهم ، فأراد أن يساعدهم على ذلك ، ولكنه لم يفعل انتظارا لوحي الله - تعالى - ، فعلمه الله - تعالى - بهذه الآيات وعلمنا أن ، ولا أن يساعد القاضي من يظن أنه هو صاحب الحق ، بل عليه أن يساوي بين الخصمين في كل شيء ، وإذا كان هذا هو الواجب ، وكان ذلك الميل إلى تأييد من غلب على الظن صدقه يفضي إلى مساعدته في الخصومة فيكون الحاكم خصيما عنه لو فعل ، وإذا كان طلب الانتصار لهم من الخائنين في الواقع ونفس الأمر في هذه القضية ، فقد وجب الاستغفار من هذا الاجتهاد وحسن الظن فهذا أحسن ما يوجه به ما ذهب إليه الاعتقاد الشخصي ، والميل الفطري والديني ، لا ينبغي أن يظهر لهما أثر ما في مجلس القضاء الرازي على تقدير صحة الرواية في سبب نزول الآيات ، وما قاله الأستاذ الإمام أبلغ في تنزيه النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يليق به ، أما العصمة فلا ينقضها شيء مما ورد ولا الأمر بالاستغفار ; لأن الأنبياء معصومون من الحكم أو العمل بغير ما أوحاه الله - تعالى - إليهم أو ما يرون باجتهادهم أنه الصواب ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يحكم في هذه القضية قبل نزول الآيات بشيء ، ولم يعمل بغير ما يعتقد أنه تأييد للحق ، ولكنه أحسن الظن في [ ص: 325 ] أمر بين له علام الغيوب حقيقة الواقع فيه وما ينبغي له في معاملة ذويه إن الله كان غفورا رحيما ، أي : كان شأنه ذلك ، وتقدم شرح مثل هذه الجملة مرارا .