[ ص: 328 ] بعد أن بين الله - تعالى - هذه الأحكام والحكم والمواعظ المنطبقة على تلك الواقعة ، ووجه إلى كل من له شأن فيها ما يناسبه في سياق هذه القواعد العامة ، خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو الحاكم بين الخصمين فيها بقوله : ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك ، أي : لولا فضل الله عليك بالنبوة والتأييد بالعصمة ، ورحمته لك ببيان حقيقة الواقعة ، لهمت طائفة من الذين يختانون أنفسهم بالمعصية أو بمساعدة الخائن أن يضلوك عن الحكم العادل المنطبق على حقيقة القضية في نفسها ، أي : يضلوك بقول الزور وتزكية المجرم وبهت اليهودي البريء ، لعلمهم أن الحكم إنما يكون بالظواهر ، أو بمحاولة الميل إلى إدانة اليهودي توهما منهم أن الإسلام يبيح ترجيح المسلم على غيره ونصره ظالما أو مظلوما كما يعهدون في غيره من الملل ، ولكنهم قبل أن يطمعوا في ذلك ويهموا به جاءك الوحي ببيان الحق ، وإقامة أركان العدل والمساواة فيه بين جميع الخلق ، وقيل : إن الآية نزلت في وفد ثقيف ، إذ قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقالوا : جئنا لنبايعك على ألا تكسر أصنامنا ولا تعشرنا ، فردهم وما يضلون إلا أنفسهم بانحرافهم عن الصراط المستقيم الذي هداهم إليه الإسلام ، واتباع الهوى والتعاون عليه وما يضرونك من شيء وقد عصمك الله من الناس ومن اتباع الهوى في الحكم بينهم ، وهذه الآية ناطقة بأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يجادل عنهم ولا أطمعهم في التحيز لهم قبل نزول الوحي ولا بعده بالأولى .
هذا ما ظهر لي الآن ، وقد رجعت بعد كتابته إلى مذكراتي التي كتبتها في درس الأستاذ الإمام فإذا فيها ما نصه :
كان الكلام في المختانين أنفسهم ومحاولتهم زحزحة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الحق ، وقد أراد تعالى بعد بيان تلك الأوامر والنواهي وتوجيهها إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يبين فضله ونعمته عليه ، قال الأستاذ ولا يصح تفسير الآية بما ورد من قصة طعمة ; لأنه على ما روي قد هم هو وأصحابه بإضلال النبي عن الحق الذي أنزله الله عليه ، وهو - تعالى - يقول : إنه بفضله ورحمته عليه قد صرف نفوس الأشرار عن الطمع في إضلاله والهم بذلك ; وذلك أن الأشرار إذا توجهت إرادتهم وهممهم إلى التلبيس عن شخص ومخادعته ومحاولة صرفه عن الحق فلا بد له أن يشغل طائفة من وقته لمقاومتهم وكشف حيلهم وتمييز تلبيسهم ، وذلك يشغل المرء عن تقرير الحقائق وصرف وقت المقاومة إلى عمل آخر صالح نافع ; ولذلك تفضل الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ورحمه بصرف كيد الأشرار عنه حتى بالهم بغشه وزحزحته عن صراط الله الذي أقامه عليه اهـ .