هذه هي أصناف الناس في الهدى والضلال ، بحسب ما خطر للفكر القاصر الآن ولا يصدق على صنف منها أنه تبين له الهدى إلا الأول والثاني ، فمن يشاقق الرسول من أفرادهما في حياته ، أو يعاد سنته من بعده ويتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم أهل الهدى ، وإنما سبيلهم كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو الذي يقول الله - تعالى - فيه : نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا ، وهو الذي يصدق عليه قوله - تعالى - في سورة أخرى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ( 45 : 23 ) ، وهم أجدر الناس بدخول جهنم ، وصليها الاحتراق بها وسائر أنواع عذابها ; لأنهم استحبوا العمى على الهدى ، وعاندوا الحق واتبعوا الهوى .
وأما سائر الأصناف فيولي الله كلا منهم ما تولى أيضا ، كما هي سنته في الإنسان الذي خلقه مريدا مختارا حاكما على نفسه وعلى الطبيعة المحيطة به ، بحيث يتصرف فيهما التصرف الذي يراه خيرا له ; ولذلك غير في أطوار كثيرة أحوال معيشته وأساليب تربيته ، وسخر قوى الطبيعة العاتية لمنافعه وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه ( 45 : 13 ) ، فهو مربي نفسه ومربي الطبيعة التي ألهها بعض أصنافه جهلا منهم بأنفسهم ، وهو لا متصرف فوقه في هذه الأرض إلا رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم ، أقول هذا نسفا لأساس جبرية الفلسفة الأوربية الحاضرة بعد نسف أساس جبرية الفلسفة الغابرة ، هؤلاء الذين يظنون أن ما يسمونه الأفعال المنعكسة تعمل في الإنسان عملها ، وأنه لا عمل له بها ، والصواب أنه حاكم عليها كحكمها عليه ، فإن ترك لها الحكم استبدت وإن أراد أن يتصرف فيه وفيها فعل .