[ ص: 380 ] اتصال هذه الآيات بما قبلها ظاهر ، فإنها تتمة الكلام في المنافقين الذين كثر في هذه السورة بيان أحوالهم هم وأهل الكتاب ، وباقيها في بيان أحوال أهل الكتاب اليهود والنصارى جميعا ومحاجتهم إلا الآية الأخيرة .
إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم ، تقدم الكلام في مخادعة المنافقين أول سورة البقرة ولكنني لا أتذكره الآن وأنا أكتب هذا في السفر والجزء الأول من التفسير ليس معي فأراجعه ، كانت العرب تسند الخداع إلى الضب ، كما اشتقت كلمة النفاق من جحره الذي سمي النافقاء ، وهو إنما يخدع طالبه بجحره ، قيل : لأنه يجعل له بابين ، إذا فوجئ من أحدهما هرب من الآخر ، وقيل : إنه يعد عقربا فيجعلها في بابه لتلدغ من يدخل يده فيه ; ولذلك قيل : العقرب بواب الضب وحاجبه ، ومن أمثالهم " أخدع من ضب " ، ويقولون : طريق خادع وخيدع أي : مضل ، كأنه يخدع سالكه فيحسبه موصلا إلى غايته أو قريبا وهو ليس كذلك ، والخداع صيغة مشاركة ، ومعناه الذي يؤخذ مما ذكرنا من استعمالهم هو إيهامك أن الشيء أو الشخص على ما تحب أو تريد وهو على غير ما تحب وما تريد ، كما يوهم جحر الضب من يريد صيده أنه قريب المنال ليس دونه مانع ، فإذا مد يده إليه لدغته العقرب ، فإن لم يكن هنالك عقرب خرج الضب من الباب الآخر ورجع الصائد بخفي حنين ، وكما يوهم الطريق الخيدع سالكه فيضل دون الغاية التي يطلبها .
قال الراغب : " الخداع إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه قال تعالى : يخادعون الله ، أي يخادعون رسوله وأولياءه ونسب ذلك إلى الله تعالى من حيث إن معاملة الرسول كمعاملته ; ولذلك قال : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله ( 48 : 10 ) ، وجعل ذلك خداعا له تفظيعا لفعلهم وتنبيها على عظم الرسول وعظم أوليائه ، وقول أهل اللغة إن هذا على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه ، فيجب أن يعلم أن المقصود بمثله في الحذف لا يحصل لو أتي بالمضاف المحذوف لما ذكرنا من التنبيه على أمرين ، أحدهما : فظاعة فعلهم فيما تحروه من الخديعة وأنهم بمخادعتهم إياه يخادعون الله ، والثاني : التنبيه على عظم المقصود بالخداع وأن معاملته كمعاملة الله وأعاد هنا الاستشهاد بآية المبايعة .
أقول : فسر مخادعة الله عز وجل بمخادعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوليائه وهم الصحابة رضي الله عنهم ; لأن المعاملة كانت بين المنافقين وبينهم ; ولأن المؤمنين بالله لا يقصدون مخادعته ، والمعطلين لا يؤمنون بوجوده ، والمعدوم لا تتوجه النفس إلى معاملته ، فإن قيل : إن هؤلاء هم الذين قال الله فيهم أول سورة البقرة : ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ( 2 : 8 ) ، وقد عزا إليهم المخادعة هنالك في الآية التي بعد هذه الآية وذكرت في تفسيرها عن الأستاذ الإمام أنهم صنف ثالث غير المؤمنين والكافرين الذين [ ص: 381 ] ذكروا ثمت في آيات أخرى ، وأن المراد بهم أن إيمانهم بالله على غير الوجه الصحيح فلا يعتد به ، ومن كان هذا شأنه لا يبعد أن تصدر عنه مخادعة الله تعالى ، كما يفعل الذين يحتالون على منع الزكاة وأكل الربا بتطبيق حيلهم على أقوال لفقهائهم وهم يعلمون أن هذا مخالف لمراد الله تعالى من إيجاب الزكاة ومنع الربا ، وهو الرحمة بالفقراء والمساكين ومواساتهم وإعانة سائر أصناف المستحقين للزكاة على الإيمان والبر والخير ، وعدم أكل أموال الناس بالباطل ، أقول : إن مثل هذا قد يقع من أهل الإيمان التقليدي غير المطابق للحق ، ولكنهم لا يقصدون به مخادعة الله تعالى قصدا ، وإنما هو جهل وضلال في معنى المخادعة .
والوجه المعقول للتعبير عن مخادعة الرسول والمؤمنين بمخادعة الله عز وجل ، هو أنهم يخادعونهم فيما يقيمون به دين الله ويعملون بما أنزل إليهم منه لا في المعاملات الشخصية الدنيوية كالبيع والشراء والمعاشرة ، فإن المخادعة في مثل هذا قد تكون مباحة أو مكروهة إذا لم يكن فيها غش ولا ضرر ، والمحرم منها لضرره لا يصل إلى درجة المخادعة في شئون الإيمان وتبليغ دين الله وإقامة كتابه فيكون من قبيل المخادعة له وهذا الوجه يتضمن أيضا تعظيم شأن الرسول والمؤمنين في التعبير عن مخادعتهم بمخادعة الله تبارك وتعالى .
وأما قوله تعالى : وهو خادعهم ، فقد قيل : إن معناه يجازيهم على خداعهم ، وأنه عبر عن ذلك بالمخادعة للمشاكلة كما قال في آية أخرى : ومكروا ومكر الله ( 3 : 54 ) ، وإنما جعلوه من المشاكلة ; لأن هذا اللفظ كلفظ المكر ، وقد استعمل في التعبير عن المعاني المذمومة التي تتضمن الكذب غالبا أو تدل على ضعف صاحبها وعجزه وغلب ذلك فيه ، وإلا فإن الخداع قد يكون في الخير ، ولأجل حماية الحقيقة وإقامة الحق ، وقد أباح الشرع ; لأن الحرب في الإسلام لا تكون إلا للدفاع عن الملة والأمة ، ولحماية الدعوة ، وفي الحديث الخداع في الحرب فيجوز أن يعبر عن سنة الله تعالى في عاقبة أمرهم عاجلها وآجلها من حيث إنها تكون على خلاف ما يحبون وما يريدون بلفظ مشتق من الخديعة ، كأنهم بخداعهم للرسول والمؤمنين يسيرون في طريق خادع يضلون فيه مطلبهم وينتهون إلى الخزي والنكال ، من حيث يطلبون السلامة والفلاح ، وهذا يلاقي قوله تعالى في سورة البقرة : الحرب خدعة يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ( 2 : 9 ) ، فخداعهم لأنفسهم بسوء اختيارهم لها هو عين خديعة الله تعالى لهم ، إذ كانت سنته فيمن يعمل عملهم ما أشرنا إليه آنفا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة ولفظ خادعهم ، اسم فاعل من الثلاثي ، والذي يسبق إلى ذهني أنه يدل على الغلبة ، - وهو ما تضم عين فعله المضارع - أي : وهو تعالى يغلبهم في الخديعة يجعل خداعهم عليهم لا لهم .
هذا ، يخادعون ويكذبون ، ويكيدون ويغشون ، ويتولون [ ص: 382 ] أعداء أمتهم ، ويتخذون لهم يدا عندهم ، يمتون بها إليهم إذا دالت الدولة لهم ، وسيأتي في الآية التي بعد هذه بيان ذبذبتهم ، ولكن لا يخفى على كل من الأمتين حالهم . شأن المنافقين في كل ملة وأمة
ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فهم يهدمون بناء الثقة بهم بأيديهم ، وكأين من منافق كانت خيانته لأمته ومساعدة أعدائها عليها سببا لهلاكه بأيدي أولئك الأعداء أنفسهم ، وقولهم : لو كان في هذا خير لكان قومه أولى بخيره منا ونحن أعداؤه وأعداؤهم ، فإن كان قد خانهم فستكون خيانته لنا أشد ، والناس يقرءون أخبار هؤلاء الأشرار في كتب التاريخ ولا يعتبرون ويكثر هؤلاء المنافقون في طور ضعف الأمة وقوة أعدائها ; لأنهم طلاب المنافع ولو فيما يضر أمتهم والناس أجمعين ، وإنما تلتمس المنافع من الأقوياء وإن اقترن التماسها بالعار ، والذل والصغار .