( ) ( 1 ) لا يمكن أن يقبل هذه القصة من يؤمن بالدليل العقلي أن خالق العالم لا بد أن يكون بكل شيء عليما ، وفي كل صنعه حكيما ; لأنها تستلزم الجهل والبداء على البارئ ، عز وجل ، كأنه حين خلق ما يرد على عقيدة الصلب آدم ما كان يعلم ما يكون عليه أمره ، وحين عصى ما كان يعلم ما يقتضيه العدل والرحمة في شأنه حتى اهتدى إلى ذلك بعد ألوف من السنين مرت على خلقه ، كان فيها جاهلا كيف يجمع بين تينك الصفتين من صفاته ، وواقعا في ورطة التناقض بينهما ، ولكن قد يقبلها من يشترط في الدين عندهم ألا يتفق مع العقل ، وأن يأخذ صاحبه بكل ما يسند إلى من نسب إليهم عمل العجائب ، ويقول : آمنت به . وإن لم يدركه ولم تذعن له نفسه . ومن ينقلون في أول كتاب من كتبهم الدينية ( سفر التكوين ) هذه الجملة ( 6 : 6 فندم الرب أنه عمل الإنسان في الأرض ، وتأسف في قلبه ) تعالى الله عن ذلك كله علوا كبيرا .
2 - يلزم من يقبل هذه القصة أن يسلم ما يحيله كل عقل مستقل ، من أن خالق الكون يمكن أن يحل في رحم امرأة في هذه الأرض التي نسبتها إلى سائر ملكه أقل من نسبة الذرة إليها وإلى سمواتها التي ترى منها ، ثم يكون بشرا يأكل ويشرب ويتعب ، ويعتريه غير ذلك مما يعتري البشر ، ثم يأخذه أعداؤه بالقهر والإهانة ، فيصلبوه مع اللصوص ، ويجعلوه ملعونا بمقتضى حكم كتابه لبعض رسله ( تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ) .
3 - تقتضي هذه القصة أن يكون الخالق العليم الحكيم قد أراد شيئا بعد التفكر فيه ألوفا من السنين ، فلم يتم له ذلك الشيء ، ذلك أن البشر لم يخلصوا وينجوا بوقوع الصلب من العذاب ، فإنهم يقولون : إن خلاصهم متوقف على الإيمان بهذه القصة ، وهم لم يؤمنوا بها ، لنا [ ص: 23 ] أن نقول : إنه لم يؤمن بها أحد قط ; لأن الإيمان هو تصديق العقل وجزمه بالشيء ، والعقل لا يستطيع أن يدرك ذلك ، والذين يقولون : إنهم مؤمنون بها يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ؛ تقليدا لمن لقنهم ذلك ، فإن سمينا مثل هذا القول إيمانا ، نقول : إن أكثر البشر لا يقولونه . بل يردونه بالدلائل العقلية ، ومنهم من يرده أيضا بالدلائل النقلية ، من دين ثبتت أصوله عندهم بالأدلة العقلية ، ومنهم من لم يعلموا بهذه القصة ، ومنهم من يقول بمثلها لآلهة أخرى ، فإذا عذبهم الله - تعالى - في الآخرة ، ولم يدخلهم ملكوته ، كما تدعي النصارى ، لا يكون رحيما على قاعدة دعاة الصلب والصليب ، فكيف جمع بذلك بين العدل والرحمة ؟ !
4 - يلزم من هذه القصة شيء أعظم من عجز الخالق ( تعالى وتقدس ) عن إتمام مراده بالجمع بين عدله ورحمته ، وهو انتفاء كل من العدل والرحمة في صلب المسيح ; لأنه عذبه من حيث هو بشر ، وهو لا يستحق العذاب لأنه لم يذنب قط ، فتعذيبه بالصلب والطعن بالحراب ، على ما زعموا ، لا يصدر من عادل ، ولا من رحيم بالأحرى ، فكيف يعقل أن يكون الخالق غير عادل ولا رحيم ؟ أو أن يكون عادلا رحيما فيخلق خلقا يوقعه في ورطة الوقوع في انتفاء إحدى هاتين الصفتين ، فيحاول الجمع بينهما فيفقدهما معا ؟ !
5 - إذا كان كل من يقول بهذه العقيدة أو القصة ينجو من عذاب الآخرة ، كيفما كانت أخلاقه وأعماله ، لزم من ذلك أن يكون أهلها إباحيين ، وأن يكون الشرير المبطل الذي يعتدي على أموال الناس وأنفسهم وأعراضهم ، ويفسد في الأرض ، ويهلك الحرث والنسل ، من أهل الملكوت الأعلى ، لا يعذب على شروره وخطيئاته ، ولا يجازى عليها بشيء ، فله أن يفعل في هذه الدنيا ما شاء هواه ، وهو آمن من عذاب الله ، وناهيك بهذا مفسدا للبشر ، وإذا كان يعذب على شروره وخطيئاته كغيره من غير الصليبيين ، فما هي مزية هذه العقيدة ؟ وإذا كان له امتياز عند الله - تعالى - في نفس الجزاء ، فأين العدل الإلهي ؟
6 - ما رأينا أحدا من العقلاء ولا من علماء الشرائع والقوانين ، يقول : إن عفو الإنسان عمن يذنب إليه ، أو عفو السيد عن عبده الذي يعصيه - ينافي العدل والكمال ، بل يعدون العفو من أعظم الفضائل ، ونرى المؤمنين بالله من الأمم المختلفة ، يصفونه بالعفو ، ويقولون : إنه أهل للمغفرة ، فدعوى الصليبيين أن العفو والمغفرة مما ينافي العدل مردودة غير مسلمة .