( ) شبهات النصارى على إنكار الصلب
( الشبهة الأولى ) : يدعي بعضهم فيما يموه به على عوام المسلمين ، أن مسألة الصلب متواترة ، فالعلم بها قطعي .
والجواب عن هذه الشبهة : أن دعوى التواتر ممنوعة ; فإن التواتر عبارة عن إخبار عدد كثير ، لا يجوز العقل اتفاقهم ، وتواطؤهم على الكذب ، بشيء قد أدركوه بحواسهم إدراكا صحيحا لا شبهة فيه ، وكان خبرهم بذلك متفقا لا خلاف فيه ، هذا إذا كان التواتر في طبقة واحدة رأوا بأعينهم شيئا ( مثلا ) وأخبروا به ، فإن كان التواتر في طبقات كان [ ص: 29 ] ما بعد الأولى مخبرا عنها ، ويشترط أن يكون أفراد كل طبقة لا يجوز عقل عاقل تواطؤهم على الكذب في الإخبار عمن قبلهم ، وأن يكون كل فرد من كل طبقة قد سمع جميع الأفراد الذين يحصل بهم التواتر ممن قبلهم . وأن يتصل السند هكذا إلى الطبقة الأخيرة ، فإن اختل شرط من هذه الشروط لا ينعقد التواتر .
وأنى للنصارى بمثل هذا التواتر ؟ والذين كتبوا الأناجيل ، والرسائل المعتمدة عندهم لا يبلغون عدد التواتر ، ولم يخبر أحد منهم عن مشاهدة ، ومن تنقل عنه المشاهدة كبعض النساء لا يؤمن عليه الاشتباه والوهم . بل قال يوحنا في إنجيله : إن مريم المجدلية وهي أعرف الناس بالمسيح اشتبهت فيه وظنت أنه البستاني ، وهو قد كان صاحب آيات ، وخوارق عادات ، فلا يبعد أن يلقى شبهه على غيره ، وينجو بالتشكل بصورة غير صورته ، كما رووا عنه أنه قال لهم : " إنهم يشكون فيه " وكما قال مرقس : إنه ظهر لهم بهيئة أخرى . ثم إن ما عزي إليهم ، لم ينقله عنهم عدد التواتر ، بالسماع منهم طبقة بعد طبقة ، إلى العصر الذي صار للنصارى فيه ملك وحرية يظهرون فيهما دينهم ، وقد بين الشيخ رحمة الله الهندي وغيره انقطاع أسانيد هذه الكتب بالبينات الواضحة . وسيأتي في هذا السياق ما يدل على عدم الثقة بها .
( الشبهة الثانية ) : يقولون لو لم تكن هذه القصة متواترة متفقا عليها ، لوجد ، فيهم ، من أنكرها ، كما وجدت فيهم فرق خالفت الجمهور في أصول عقائده ; كالتثليث ، ولم تخالفه في هذه العقيدة .
والجواب عن هذا عسير على من يجهل تاريخهم ، يسير على المطلع عليه ، فقد أنكر الصلب منهم فرقة السيرنثيين ، والتاتيانوسيين أتباع تاتيانوس تلميذ يوستينوس الشهيد ، وقال فوتيوس : إنه قرأ كتابا يسمى : " رحلة الرسل " فيه أخبار بطرس ، ويوحنا ، وأندراوس ، وتوما ، وبولس ، ومما قرأه فيه : " أن المسيح لم يصلب ، ولكن صلب غيره ، وقد ضحك بذلك من صالبيه "
هذا ، وإن مجامعهم الأولى قد حرمت قراءة الكتب التي تخالف الأناجيل الأربعة ، والرسائل التي اعتمدتها ، فصار أتباعهم يحرقون تلك الكتب ويتلفونها ، وإننا نرى ما سلم بعض نسخه ، منها ، كإنجيل برنابا ينكر الصلب ، وما يدرينا أن تلك الكتب التي فقدت كانت تنكره أيضا ، فنحن لا ثقة لنا باختيار المجامع لما اختارته ، فنجعله حجة ، ونعد ما عداه كالعدم . على أن عدم العلم بالمنكرين لا يقتضي عدم وجودهم ، وعدم وجودهم لا يقتضي أن يكون ما اتفقوا عليه بتقليد بعضهم لبعض ثابتا في نفسه .
( الشبهة الثالثة ) : يقولون : إن الأناجيل ، ورسائل العهد الجديد قد أثبتت الصلب ، وهي كتب مقدسة معصومة من الخطأ ، فوجب اعتقاد ما أثبتته .
ونقول ( أولا ) : لا دليل على عصمة هذه الكتب ، ولا على أن كاتبيها كانوا معصومين ، و ( ثانيا ) : لا دليل على نسبتها إلى من نسبت إليهم ; لأنها غير متواترة كما تقدم ، و ( ثالثا ) [ ص: 30 ] : أنها معارضة بأمثالها كإنجيل برنابا ، وترجيحهم إياها على هذا الإنجيل لا يصلح مرجحا عندنا ; لأنهم اتبعوا في اعتمادها تلك المجامع التي لا ثقة لنا بأهلها ، ولا كانوا معصومين عندهم ، ولا عندنا ، و ( رابعا ) : أنها متعارضة في قصة الصلب ، وفي غيرها ، و ( خامسا ) : أنها معارضة بالقرآن العزيز ، وهو الكتاب الإلهي الذي ثبت نقله بالتواتر الصحيح ، دون غيره ، فقصارى تلك الكتب أن تفيد الظن بالقرائن كما قال ، تعالى : ما لهم به من علم إلا اتباع الظن والقرآن قطعي ، فوجب تقديمه ; لأنه يفيد العلم القطعي .
إن بعض المسلمين يصدقون دعاة النصرانية ، ومجادليهم في زعمهم أن هذه الأناجيل محفوظة عندهم من عهد المسيح إلى الآن ، وأنها مسلمة عند جميع فرقهم ، ومعروفة عند غيرهم ، فلم يكن يختلف فيها اثنان . ولكن من طالع كتبهم التاريخية والدينية ، يعلم أن هذه الدعوى باطلة . وإنما يصدقهم المسلمون الجاهلون ; لتوهم أن النصرانية نشأت كالإسلام في مهد القوة والعزة والمدنية والحضارة ، فأمكن حفظ كتبها كما أمكن حفظ القرآن . وشتان بين الأمتين في نشأتهما شتان . وإليك نزرا من البيان ، وإن شئت المزيد من مثله فارجع إلى الكتب المؤلفة في هذا الشأن .