(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=50nindex.php?page=treesubj&link=31916_28973وإذ فرقنا بكم البحر فأنجيناكم وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=51وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=52ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=53وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون )
جاء في الآية السابقة ذكر
nindex.php?page=treesubj&link=31915تنجية بني إسرائيل من آل فرعون ، وهو على كونه تفصيلا لما قبله من حيث التذكير بالنعم ، مجمل من حيث الإنجاء ، فإنه يشمل النجاة بجميع أنواعها من ذلك العذاب ، وذكر في هذه الآية نعمته في طريق الإنجاء بالتفصيل بعد الإجمال لبيان عناية الله - تعالى - بهم فيها ، إذ جعل وسيلته من خوارق العادات ، وجعل في طريقه هلاك عدوهم . وقد يقال : إن هذه نعمة مستقلة من نعمه - تعالى - عليهم ، لا أنها بيان الإجمال في التي قبلها .
لما
nindex.php?page=treesubj&link=31910أرسل الله - تعالى - موسى - عليه السلام - إلى فرعون وملئه يدعوهم إلى توحيد الله ، وإلى أن يخلي بينه وبين
شعب إسرائيل بعد إطلاقهم من ذلك الاستعباد والتعذيب ، لم يزدهم
فرعون إلا تعذيبا وتعبيدا ، وفي سفر الخروج من تاريخ التوراة : أن الله - تعالى - أنبأ
موسى بأنه يقسي
[ ص: 261 ] قلب
فرعون فلا يخفف العذاب عن
بني إسرائيل ، ولا يرسلهم مع
موسى حتى يريه آياته ، وأنه بعد الدعوة زاد ظلما وعتوا ، فأمر الذين كانوا يسخرون
بني إسرائيل في الأعمال الشاقة بأن يزيدوا في القسوة عليهم ، وأن يمنعوهم التبن الذي كانوا يعطونهم إياه لعمل اللبن ( الطوب ) ، ويكلفوهم أن يجمعوا التبن ويعملوا كل ما كانوا يعملونه من اللبن ، لا يخفف عنهم منه شيء ، فأعطى الله - تعالى -
موسى وأخاه
هارون الآيات البينات ، فحاول
فرعون معارضتها بسحر السحرة ، فلما آمن السحرة برب العالمين رب
موسى وهارون ؛ لعلمهم أن ما جاء به ليس من السحر ، وإنما هو تأييد من الله - تعالى - ، ورأى ما رأى بعد ذلك من آيات الله
لموسى ، سمح بخروج
بني إسرائيل بل طردهم ، وفي سفر الخروج أنهم خرجوا في شهر أبيب ، وكانت إقامتهم في
مصر 430 سنة . ثم أتبعهم
فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم ، وأنجى الله
بني إسرائيل ، وأغرق
فرعون ومن معه ، وذلك قوله - عز وجل - :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=50وإذ فرقنا بكم البحر ) أي : واذكروا من نعمنا عليكم إذ فرقنا بكم البحر فجعلنا لكم فيه طريقا يبسا سلكتموه في هربكم من
فرعون ( فأنجيناكم ) بعبوره من جانب إلى آخر (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=50وأغرقنا آل فرعون ) إذ عبروا وراءكم (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=50وأنتم تنظرون ) ذلك بأعينكم ، لولاه لعظم عليكم خبر غرقهم ولم تصدقوه .
( قال الأستاذ الإمام ) :
nindex.php?page=treesubj&link=31942فلق البحر كان من معجزات موسى . وقد قلنا في " رسالة التوحيد " : إن الخوارق الجائزة عقلا ، أي التي ليس فيها اجتماع النقيضين ، ولا ارتفاعهما لا مانع من وقوعها بقدرة الله - تعالى - في يد نبي من الأنبياء ، ويجب أن نؤمن بها على ظاهرها ، ولا يمنعنا هذا الإيمان من الاهتداء بسنن الله - تعالى - في الخلق واعتقاد أنها لا تتبدل ولا تتحول ، كما قال الله في كتابه الذي ختم به الوحي ، على لسان نبيه الذي ختم به النبيين ، فانتهى بذلك زمن المعجزات ، ودخل الإنسان بدين الإسلام في سن الرشد ، فلم تعد مدهشات الخوارق هي الجاذبة له إلى الإيمان وتقويم ما يعرض للفطرة من الميل عن الاعتدال في الفكر والأخلاق والأعمال ، كما كان في سن الطفولية ( النوعية ) بل أرشده - تعالى - بالوحي الأخير ( القرآن ) إلى استعمال عقله في تحصيل الإيمان بالله وبالوحي ، ثم جعل له كل إرشادات الوحي مبينة معللة مدللة حتى في مقام الأدب ( كما أوضحنا ذلك في رسالة التوحيد ) . فإيماننا بما أيد الله - تعالى - به الأنبياء من الآيات لجذب قلوب أقوامهم الذين لم ترتق عقولهم إلى فهم البرهان ، لا ينافي كون ديننا هو دين العقل والفطرة ، وكونه حتم علينا الإيمان بما يشهد له العيان ، من أن سننه - تعالى - في الخلق لا تبديل لها ولا تحويل .
( أقول ) : وجملة القول أن الذي يمنعه العقل هو وقوع المحال ،
nindex.php?page=treesubj&link=28752فلا يمكن أن يؤيد نبي بما هو مستحيل عقلا ؛ لأن المستحيل هو الذي لا يمكن وقوعه ، وما وقع لا يكون مستحيلا ، ولذلك سمى المتكلمون المعجزات " خوارق العادات " ومنهم من يقول : إن لها أسبابا
[ ص: 262 ] خفية روحية لم يطلع الله الأمم عليها ولكنه خص بها الأنبياء - عليهم السلام - ، والمشهور : أن الله يخلقها بغير سبب لتدل على أن السنن والنواميس لا تحكم على واضعها ومدبرها ، وإنما هو الحاكم المتصرف بها ، وإنما كان هذا هو المشهور ؛ لأنه الظاهر ، وإلا فمن ذا الذي يستطيع أن ينفي ذلك النفي المطلق عن عالم الغيب ؟ وقد ذكر القولين الإمام
nindex.php?page=showalam&ids=14847الغزالي وأشار إليهما الأستاذ الإمام في رسالة التوحيد .
( قال ) : وزعم الذين لا يحبون المعجزات من المتهورين أن
nindex.php?page=treesubj&link=31915عبور بني إسرائيل البحر كان في إبان الجزر ، فإن في البحر الأحمر رقارق إذا كان الجزر الذي عهد هناك شديدا يتيسر للإنسان أن يعبر ماشيا ، ولما أتبعهم
فرعون بجنوده ورآهم قد عبروا البحر تأثرهم ، وكان المد تفيض ثوائبه ( وهي المياه التي تجيء عقيب الجزر ) فلما نجا
بنو إسرائيل ، كان المد قد طغى وعلا حتى أغرق المصريين ، وتحقق إنعام الله على
بني إسرائيل يتم بهذا التوفيق لهم والخذلان لعدوهم ، ولا ينافي الامتنان به عليهم كونه ليس آية
لموسى - عليه السلام . فإن نعم الله بغير طريق المعجزات أعم وأكثر ، كذا قالوا . قال شيخنا : ولكن يدل على كونه آية له وصف كل فرق منه بالطود العظيم . وإذا تيسر تأويل كل آيات القصة من القرآن فإنه يتعسر تأويل قوله - تعالى - في سورة الشعراء : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=63فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ) ( 26 : 63 ) وهو الموافق لما في التوراة ا هـ .
ويقول المؤولون : إنهم لما عبروا انفرق بهم ، وكانوا لاستعجالهم واتصال بعضهم ببعض قد جعلوا ذلك الماء الرقارق فرقين عظيمين ممتدين كالطودين ، وأن هذه الآية تشعر بذلك ، فإنه يقول : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=50وإذ فرقنا بكم البحر ) ولم يقل : فرقنا لكم البحر ، والظاهر أن الباء هنا للآلة ، كما تقول : قطعت بالسكين . وأما قوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=63فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ) ( 26 : 63 ) فإنه لا ينافي أن الانفلاق كان بهم كما في آية البقرة لا بالعصا ، وذلك أن الذي أوحاه الله - تعالى - إلى
موسى هو أن يخوض البحر
ببني إسرائيل ، وقد عهد أن من كان بيده عصا إذا أراد الخوض في ماء كترعة أو نهر ، فإنه يضرب الماء أولا بعصاه ثم يمشي ، فهذه الآية معبرة عن هذا المعنى : أي ألهمه الله عند ما وصل إلى البحر أن يضربه بعصاه ويمشي ، ففعل ومشى وراءه
بنو إسرائيل بجمعهم الكبير ، فانفلق بهم البحر . وأما قوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=63فكان كل فرق كالطود العظيم ) ( 26 : 63 ) فهو تشبيه معهود مثله في مقام المبالغة ، كقوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=42وهي تجري بهم في موج كالجبال ) ( 11 : 42 ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=32ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام ) ( 42 : 32 ) فالأمواج والسفن والجواري لا تكون كالجبال الشاهقة ، والأعلام الباسقة ، وإنما تقضي البلاغة بمثل هذا التعبير ، لكمال التصوير وإرادة التأثير .
هذا ما ينتهي إليه تأويل المؤولين ولم يبسطه الأستاذ الإمام في الدرس ، وإنما قرر أن
[ ص: 263 ] فرق البحر كان معجزة
لموسى - عليه السلام - ، وحكى عن المتهورين من الذين لا يحبون المعجزات خلافه ، وهو أنهم يزعمون أن عبور البحر كان في وقت الجزر ، وإنما بسطنا تأويلهم لئلا يتوهموا أننا لم نقل به ؛ لأننا لم نهتد لتوجيهه مثلهم ، ولا يهمنا أن ننازعهم في تأويل آية بخصوصها إذا علمنا أنهم يثبتون الآيات الكونية تأييدا للأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ، فإذا كانوا ينفونها كلها فالأولى لهم ألا يتعبوا في تأويل جزئياتها ، فإن منها ما لا يقبل التأويل بحال من الأحوال ، وحينئذ يكون الكلام بيننا وبينهم لإثباتها أولا في قدرة الله وإرادته ، ثم في إثبات أصل الوحي وإرسال الرسل ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، ولنا أن نقول هنا : إن الباء في قوله ( بكم ) سببية ، أو للملابسة لا للآلة ، وقد أشار
البيضاوي إلى ذلك كله بقوله : فقلناه وفصلنا بين بعضه وبعض حتى حصلت فيه مسالك لسلوككم فيه أو بسبب إنجائكم ، أو متلبسا بكم .
وأزيد الآن : أنني رأيت بعد كتابة ما تقدم ببضع سنين جزءا من تفسير
الأصبهاني في خزانة كتب
كوبريلي باشا في الآستانة ، فراجعت تفسير هذه الآية فيه فألفيته يذكر في الباء الوجهين ، أي : إن فرق البحر حصل بهم ، أي : بنفس عبورهم أو بسببهم . ومثله قول
البغوي : قيل : معناه فرقناه لكم ، وقيل : فرقنا البحر بدخولكم إياه .
قال الأستاذ الإمام : بعد أن قرر نعمة الإنجاء من استبعاد الظالمين ، والبعد من فتنة القوم الضالين ، ذكر النعمة التي وليتها ، وذكرهم بما كان من كفرهم إياها ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=51nindex.php?page=treesubj&link=28973وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ) وقد كانت هذه المواعدة لإعطائه التوراة ، ولما ذهب لميقات ربه استبطئوه فاتخذوا عجلا من ذهب فعبدوه ، كما هو مفصل في غير هذه السورة - وسيأتي هناك تفسيره إن شاء الله - تعالى - والمراد هنا التذكير بالنعمة وبيان كفرها ؛ ليظهر أن تكذيبهم
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ومعاندته ليس ببدع من أمرهم ، وإنما هو معهود منهم مع رؤية الآيات وبعد إغداق النعم عليهم ؛ ولذلك اكتفى بالإشارة إليه بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=51ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون ) أي : اتخذتموه إلها ومعبودا . وبعد أن ذكرهم بذلك الظلم ذكرهم بتفضله عليهم بالتوبة ، ثم بالعفو الذي هو جزاء التوبة ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=52ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون ) هذه النعمة بدوام التوحيد والطاعة .
ثم قفى على هذا بذكر إيتائهم الكتاب وهو المنة الكبرى ، فقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=53nindex.php?page=treesubj&link=31912_28973وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون ) . قال المفسر (
الجلال ) كغيره : إن الفرقان هو التوراة ، وقال بعض المفسرين : إن
nindex.php?page=treesubj&link=31942الفرقان هو ما أوتيه موسى من الآيات والمعجزات . وقال الأستاذ الإمام بعد حكاية القولين : ولكن ذكره بعد الكتاب معطوفا عليه دليل على أن المراد به ما في الكتاب من الشرائع والأحكام المفرقة بين الحق والباطل والحلال والحرام ، ومعنى
[ ص: 264 ] قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=52لعلكم تشكرون ) و (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=53لعلكم تهتدون ) أي : ليعدكم بهذا العفو للاستمرار على الشكر ويعدكم بهذه الأحكام والشرائع للاهتداء ويهيئكم للاسترشاد ، فلا تقعوا في وثنية أخرى ، وإن من كمال الاستعداد للهداية بفهم الكتاب أن يعرفوا أن ما جاء به
محمد - صلى الله عليه وسلم - هو هدى ونور يرجعهم إلى الأصل الذي تفرقوا عنه واختلفوا فيه ، وكذلك اهتدى به منهم المستبصرون ، وجاحده الرؤساء المستكبرون ، والمقلدون الذين لا يعقلون .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=50nindex.php?page=treesubj&link=31916_28973وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=51وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=52ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=53وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ )
جَاءَ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ ذِكْرُ
nindex.php?page=treesubj&link=31915تَنْجِيَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ، وَهُوَ عَلَى كَوْنِهِ تَفْصِيلًا لِمَا قَبْلَهُ مِنْ حَيْثُ التَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ ، مُجْمَلٌ مِنْ حَيْثُ الْإِنْجَاءِ ، فَإِنَّهُ يَشْمَلُ النَّجَاةَ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ نِعْمَتَهُ فِي طَرِيقِ الْإِنْجَاءِ بِالتَّفْصِيلِ بَعْدَ الْإِجْمَالِ لِبَيَانِ عِنَايَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - بِهِمْ فِيهَا ، إِذْ جَعَلَ وَسِيلَتَهُ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ ، وَجَعَلَ فِي طَرِيقِهِ هَلَاكَ عَدُوِّهِمْ . وَقَدْ يُقَالُ : إِنَّ هَذِهِ نِعْمَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مِنْ نِعَمِهِ - تَعَالَى - عَلَيْهِمْ ، لَا أَنَّهَا بَيَانُ الْإِجْمَالِ فِي الَّتِي قَبْلَهَا .
لَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=31910أَرْسَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ يَدْعُوهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ ، وَإِلَى أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
شَعْبِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ إِطْلَاقِهِمْ مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِعْبَادِ وَالتَّعْذِيبِ ، لَمْ يَزِدْهُمْ
فِرْعَوْنُ إِلَّا تَعْذِيبًا وَتَعْبِيدًا ، وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنْ تَارِيخِ التَّوْرَاةِ : أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَنْبَأَ
مُوسَى بِأَنَّهُ يُقَسِّي
[ ص: 261 ] قَلْبَ
فِرْعَوْنَ فَلَا يُخَفِّفُ الْعَذَابَ عَنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَلَا يُرْسِلُهُمْ مَعَ
مُوسَى حَتَّى يُرِيَهُ آيَاتِهِ ، وَأَنَّهُ بَعْدَ الدَّعْوَةِ زَادَ ظُلْمًا وَعُتُوًّا ، فَأَمَرَ الَّذِينَ كَانُوا يُسَخِّرُونَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ بِأَنْ يَزِيدُوا فِي الْقَسْوَةِ عَلَيْهِمْ ، وَأَنْ يَمْنَعُوهُمُ التِّبْنَ الَّذِي كَانُوا يُعْطُونَهُمْ إِيَّاهُ لِعَمَلِ اللَّبِنِ ( الطُّوبِ ) ، وَيُكَلِّفُوهُمْ أَنْ يَجْمَعُوا التِّبْنَ وَيَعْمَلُوا كُلَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنَ اللَّبِنِ ، لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْهُ شَيْءٌ ، فَأَعْطَى اللَّهُ - تَعَالَى -
مُوسَى وَأَخَاهُ
هَارُونَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ ، فَحَاوَلَ
فِرْعَوْنُ مُعَارَضَتَهَا بِسِحْرِ السَّحَرَةِ ، فَلَمَّا آمَنَ السَّحَرَةُ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ رَبِّ
مُوسَى وَهَارُونَ ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ لَيْسَ مِنَ السِّحْرِ ، وَإِنَّمَا هُوَ تَأْيِيدٌ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - ، وَرَأَى مَا رَأَى بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ
لِمُوسَى ، سَمَحَ بِخُرُوجِ
بَنِي إِسْرَائِيلَ بَلْ طَرَدَهُمْ ، وَفِي سِفْرِ الْخُرُوجِ أَنَّهُمْ خَرَجُوا فِي شَهْرِ أَبِيبٍ ، وَكَانَتْ إِقَامَتُهُمْ فِي
مِصْرَ 430 سَنَةٍ . ثُمَّ أَتْبَعَهُمْ
فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ ، وَأَنْجَى اللَّهُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَأَغْرَقَ
فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=50وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ) أَيْ : وَاذْكُرُوا مِنْ نِعَمِنَا عَلَيْكُمْ إِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهِ طَرِيقًا يَبَسًا سَلَكْتُمُوهُ فِي هَرَبِكُمْ مِنْ
فِرْعَوْنَ ( فَأَنْجَيْنَاكُمْ ) بِعُبُورِهِ مِنْ جَانِبٍ إِلَى آخَرَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=50وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ) إِذْ عَبَرُوا وَرَاءَكُمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=50وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ) ذَلِكَ بِأَعْيُنِكُمْ ، لَوْلَاهُ لَعَظُمَ عَلَيْكُمْ خَبَرُ غَرَقِهِمْ وَلَمْ تُصَدِّقُوهُ .
( قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ ) :
nindex.php?page=treesubj&link=31942فَلْقُ الْبَحْرِ كَانَ مِنْ مُعْجِزَاتِ مُوسَى . وَقَدْ قُلْنَا فِي " رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ " : إِنَّ الْخَوَارِقَ الْجَائِزَةَ عَقْلًا ، أَيِ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ ، وَلَا ارْتِفَاعُهُمَا لَا مَانِعَ مِنْ وُقُوعِهَا بِقُدْرَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي يَدِ نَبِيٍّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ، وَيَجِبُ أَنْ نُؤْمِنَ بِهَا عَلَى ظَاهِرِهَا ، وَلَا يَمْنَعُنَا هَذَا الْإِيمَانُ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِسُنَنِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي الْخَلْقِ وَاعْتِقَادِ أَنَّهَا لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الَّذِي خَتَمَ بِهِ الْوَحْيَ ، عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الَّذِي خَتَمَ بِهِ النَّبِيِّينَ ، فَانْتَهَى بِذَلِكَ زَمَنُ الْمُعْجِزَاتِ ، وَدَخَلَ الْإِنْسَانُ بِدِينِ الْإِسْلَامِ فِي سِنِّ الرُّشْدِ ، فَلَمْ تَعُدْ مُدْهِشَاتُ الْخَوَارِقِ هِيَ الْجَاذِبَةُ لَهُ إِلَى الْإِيمَانِ وَتَقْوِيمِ مَا يَعْرِضُ لِلْفِطْرَةِ مِنَ الْمَيْلِ عَنِ الِاعْتِدَالِ فِي الْفِكْرِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ ، كَمَا كَانَ فِي سِنِّ الطُّفُولِيَّةِ ( النَّوْعِيَّةِ ) بَلْ أَرْشَدَهُ - تَعَالَى - بِالْوَحْيِ الْأَخِيرِ ( الْقُرْآنِ ) إِلَى اسْتِعْمَالِ عَقْلِهِ فِي تَحْصِيلِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِالْوَحْيِ ، ثُمَّ جَعَلَ لَهُ كُلَّ إِرْشَادَاتِ الْوَحْيِ مُبَيِّنَةً مُعَلِّلَةً مُدَلِّلَةً حَتَّى فِي مَقَامِ الْأَدَبِ ( كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ ) . فَإِيمَانُنَا بِمَا أَيَّدَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِهِ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ الْآيَاتِ لِجَذْبِ قُلُوبِ أَقْوَامِهِمُ الَّذِينَ لَمْ تَرْتَقِ عُقُولُهُمْ إِلَى فَهْمِ الْبُرْهَانِ ، لَا يُنَافِي كَوْنَ دِينِنَا هُوَ دِينُ الْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ ، وَكَوْنِهِ حَتَّمَ عَلَيْنَا الْإِيمَانَ بِمَا يَشْهَدُ لَهُ الْعِيَانُ ، مِنْ أَنَّ سُنَنَهُ - تَعَالَى - فِي الْخَلْقِ لَا تَبْدِيلَ لَهَا وَلَا تَحْوِيلَ .
( أَقُولُ ) : وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ الَّذِي يَمْنَعُهُ الْعَقْلُ هُوَ وُقُوعُ الْمُحَالِ ،
nindex.php?page=treesubj&link=28752فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤَيَّدَ نَبِيٌّ بِمَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ عَقْلًا ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِيلَ هُوَ الَّذِي لَا يُمْكِنُ وُقُوعُهُ ، وَمَا وَقَعَ لَا يَكُونُ مُسْتَحِيلًا ، وَلِذَلِكَ سَمَّى الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُعْجِزَاتِ " خَوَارِقَ الْعَادَاتِ " وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إِنَّ لَهَا أَسْبَابًا
[ ص: 262 ] خَفِيَّةً رُوحِيَّةً لَمْ يُطْلِعِ اللَّهُ الْأُمَمَ عَلَيْهَا وَلَكِنَّهُ خَصَّ بِهَا الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - ، وَالْمَشْهُورُ : أَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُهَا بِغَيْرِ سَبَبٍ لِتَدُلَّ عَلَى أَنَّ السُّنَنَ وَالنَّوَامِيسَ لَا تَحْكُمُ عَلَى وَاضِعِهَا وَمُدَبِّرِهَا ، وَإِنَّمَا هُوَ الْحَاكِمُ الْمُتَصَرِّفُ بِهَا ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ ؛ لِأَنَّهُ الظَّاهِرُ ، وَإِلَّا فَمَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفِيَ ذَلِكَ النَّفْيَ الْمُطْلَقَ عَنْ عَالَمِ الْغَيْبِ ؟ وَقَدْ ذَكَرَ الْقَوْلَيْنِ الْإِمَامُ
nindex.php?page=showalam&ids=14847الْغَزَالِيُّ وَأَشَارَ إِلَيْهِمَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي رِسَالَةِ التَّوْحِيدِ .
( قَالَ ) : وَزَعَمَ الَّذِينَ لَا يُحِبُّونَ الْمُعْجِزَاتِ مِنَ الْمُتَهَوِّرِينَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31915عُبُورَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ كَانَ فِي إِبَّانِ الْجَزْرِ ، فَإِنَّ فِي الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ رُقَارِقَ إِذَا كَانَ الْجَزْرُ الَّذِي عُهِدَ هُنَاكَ شَدِيدًا يَتَيَسَّرُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَعْبُرَ مَاشِيًا ، وَلَمَّا أَتْبَعَهُمْ
فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ وَرَآهُمْ قَدْ عَبَرُوا الْبَحْرَ تَأَثَّرَهُمْ ، وَكَانَ الْمَدُّ تَفِيضُ ثَوَائِبُهُ ( وَهِيَ الْمِيَاهُ الَّتِي تَجِيءُ عُقَيْبَ الْجَزْرِ ) فَلَمَّا نَجَا
بَنُو إِسْرَائِيلَ ، كَانَ الْمَدُّ قَدْ طَغَى وَعَلَا حَتَّى أَغْرَقَ الْمِصْرِيِّينَ ، وَتَحَقُّقُ إِنْعَامِ اللَّهِ عَلَى
بَنِي إِسْرَائِيلَ يَتِمُّ بِهَذَا التَّوْفِيقِ لَهُمْ وَالْخِذْلَانِ لِعَدْوِهِمْ ، وَلَا يُنَافِي الِامْتِنَانَ بِهِ عَلَيْهِمْ كَوْنُهُ لَيْسَ آيَةً
لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ . فَإِنَّ نِعَمَ اللَّهِ بِغَيْرِ طَرِيقِ الْمُعْجِزَاتِ أَعَمُّ وَأَكْثَرُ ، كَذَا قَالُوا . قَالَ شَيْخُنَا : وَلَكِنْ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ آيَةً لَهُ وَصْفُ كُلِّ فِرْقٍ مِنْهُ بِالطَّوْدِ الْعَظِيمِ . وَإِذَا تَيَسَّرَ تَأْوِيلُ كُلِّ آيَاتِ الْقِصَّةِ مِنَ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يَتَعَسَّرُ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ - تَعَالَى - فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=63فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) ( 26 : 63 ) وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا فِي التَّوْرَاةِ ا هـ .
وَيَقُولُ الْمُؤَوِّلُونَ : إِنَّهُمْ لَمَّا عَبَرُوا انْفَرَقَ بِهِمْ ، وَكَانُوا لِاسْتِعْجَالِهِمْ وَاتِّصَالِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ قَدْ جَعَلُوا ذَلِكَ الْمَاءَ الرَّقَارِقَ فِرْقَيْنِ عَظِيمَيْنِ مُمْتَدَّيْنِ كَالطَّوْدَيْنِ ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تُشْعِرُ بِذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يَقُولُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=50وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ ) وَلَمْ يَقُلْ : فَرَقْنَا لَكُمُ الْبَحْرَ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبَاءَ هُنَا لِلْآلَةِ ، كَمَا تَقُولُ : قَطَعْتُ بِالسِّكِّينِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=63فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ ) ( 26 : 63 ) فَإِنَّهُ لَا يُنَافِي أَنَّ الِانْفِلَاقَ كَانَ بِهِمْ كَمَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ لَا بِالْعَصَا ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي أَوْحَاهُ اللَّهُ - تَعَالَى - إِلَى
مُوسَى هُوَ أَنْ يَخُوضَ الْبَحْرَ
بِبَنِي إِسْرَائِيلَ ، وَقَدْ عُهِدَ أَنَّ مَنْ كَانَ بِيَدِهِ عَصًا إِذَا أَرَادَ الْخَوْضَ فِي مَاءٍ كَتُرْعَةٍ أَوْ نَهْرٍ ، فَإِنَّهُ يَضْرِبُ الْمَاءَ أَوَّلًا بِعَصَاهُ ثُمَّ يَمْشِي ، فَهَذِهِ الْآيَةُ مُعَبِّرَةٌ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى : أَيْ أَلْهَمَهُ اللَّهُ عِنْدَ مَا وَصَلَ إِلَى الْبَحْرِ أَنْ يَضْرِبَهُ بِعَصَاهُ وَيَمْشِيَ ، فَفَعَلَ وَمَشَى وَرَاءَهُ
بَنُو إِسْرَائِيلَ بِجَمْعِهِمُ الْكَبِيرِ ، فَانْفَلَقَ بِهِمُ الْبَحْرُ . وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=26&ayano=63فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ) ( 26 : 63 ) فَهُوَ تَشْبِيهٌ مَعْهُودٌ مِثْلُهُ فِي مَقَامِ الْمُبَالَغَةِ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=42وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ) ( 11 : 42 ) وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=42&ayano=32وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ) ( 42 : 32 ) فَالْأَمْوَاجُ وَالسُّفُنُ وَالْجَوَارِي لَا تَكُونُ كَالْجِبَالِ الشَّاهِقَةِ ، وَالْأَعْلَامِ الْبَاسِقَةِ ، وَإِنَّمَا تَقْضِي الْبَلَاغَةُ بِمِثْلِ هَذَا التَّعْبِيرِ ، لِكَمَالِ التَّصْوِيرِ وَإِرَادَةِ التَّأْثِيرِ .
هَذَا مَا يَنْتَهِي إِلَيْهِ تَأْوِيلُ الْمُؤَوِّلِينَ وَلَمْ يَبْسُطْهُ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي الدَّرْسِ ، وَإِنَّمَا قَرَّرَ أَنَّ
[ ص: 263 ] فَرْقَ الْبَحْرِ كَانَ مُعْجِزَةً
لِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ، وَحَكَى عَنِ الْمُتَهَوِّرِينَ مِنَ الَّذِينَ لَا يُحِبُّونَ الْمُعْجِزَاتِ خِلَافَهُ ، وَهُوَ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عُبُورَ الْبَحْرِ كَانَ فِي وَقْتِ الْجَزْرِ ، وَإِنَّمَا بَسَطْنَا تَأْوِيلَهُمْ لِئَلَّا يَتَوَهَّمُوا أَنَّنَا لَمْ نَقُلْ بِهِ ؛ لِأَنَّنَا لَمْ نَهْتَدِ لِتَوْجِيهِهِ مِثْلَهُمْ ، وَلَا يَهِمُّنَا أَنْ نُنَازِعَهُمْ فِي تَأْوِيلِ آيَةٍ بِخُصُوصِهَا إِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ الْآيَاتِ الْكَوْنِيَّةِ تَأْيِيدًا لِلْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ، فَإِذَا كَانُوا يَنْفُونَهَا كُلَّهَا فَالْأَوْلَى لَهُمْ أَلَّا يَتْعَبُوا فِي تَأْوِيلِ جُزْئِيَّاتِهَا ، فَإِنَّ مِنْهَا مَا لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْكَلَامُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ لِإِثْبَاتِهَا أَوَّلًا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ ، ثُمَّ فِي إِثْبَاتِ أَصْلِ الْوَحْيِ وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَلَنَا أَنْ نَقُولَ هُنَا : إِنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ ( بِكُمْ ) سَبَبِيَّةٌ ، أَوْ لِلْمُلَابَسَةِ لَا لِلْآلَةِ ، وَقَدْ أَشَارَ
الْبَيْضَاوِيُّ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِقَوْلِهِ : فَقُلْنَاهُ وَفَصَلْنَا بَيْنَ بَعْضِهِ وَبَعْضٍ حَتَّى حَصَلَتْ فِيهِ مَسَالِكُ لِسُلُوكِكُمْ فِيهِ أَوْ بِسَبَبِ إِنْجَائِكُمْ ، أَوْ مُتَلَبَّسًا بِكُمْ .
وَأَزْيَدُ الْآنَ : أَنَّنِي رَأَيْتُ بَعْدَ كِتَابَةِ مَا تَقَدَّمَ بِبِضْعِ سِنِينَ جُزْءًا مِنْ تَفْسِيرِ
الْأَصْبَهَانِيِّ فِي خِزَانَةِ كُتُبِ
كُوبْرِيلِّي بَاشَا فِي الْآسِتَانَةِ ، فَرَاجَعْتُ تَفْسِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ فَأَلْفَيْتُهُ يَذْكُرُ فِي الْبَاءِ الْوَجْهَيْنِ ، أَيْ : إِنَّ فَرْقَ الْبَحْرِ حَصَلَ بِهِمْ ، أَيْ : بِنَفْسِ عُبُورِهِمْ أَوْ بِسَبَبِهِمْ . وَمِثْلُهُ قَوْلُ
الْبَغَوِيِّ : قِيلَ : مَعْنَاهُ فَرَقْنَاهُ لَكُمْ ، وَقِيلَ : فَرَقْنَا الْبَحْرَ بِدُخُولِكُمْ إِيَّاهُ .
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ : بَعْدَ أَنْ قَرَّرَ نِعْمَةَ الْإِنْجَاءِ مِنِ اسْتِبْعَادِ الظَّالِمِينَ ، وَالْبُعْدِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ، ذَكَرَ النِّعْمَةَ الَّتِي وَلِيَتْهَا ، وَذَكَّرَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ كُفْرِهِمْ إِيَّاهَا ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=51nindex.php?page=treesubj&link=28973وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُوَاعَدَةُ لِإِعْطَائِهِ التَّوْرَاةَ ، وَلَمَّا ذَهَبَ لِمِيقَاتِ رَبِّهِ اسْتَبْطَئُوهُ فَاتَّخَذُوا عِجْلًا مِنْ ذَهَبٍ فَعَبَدُوهُ ، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ - وَسَيَأْتِي هُنَاكَ تَفْسِيرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَالْمُرَادُ هُنَا التَّذْكِيرُ بِالنِّعْمَةِ وَبَيَانُ كُفْرِهَا ؛ لِيَظْهَرَ أَنَّ تَكْذِيبَهُمْ
بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمُعَانَدَتَهُ لَيْسَ بِبِدْعٍ مِنْ أَمْرِهِمْ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْهُودٌ مِنْهُمْ مَعَ رُؤْيَةِ الْآيَاتِ وَبَعْدَ إِغْدَاقِ النِّعَمِ عَلَيْهِمْ ؛ وَلِذَلِكَ اكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=51ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ) أَيِ : اتَّخَذْتُمُوهُ إِلَهًا وَمَعْبُودًا . وَبَعْدَ أَنْ ذَكَّرَهُمْ بِذَلِكَ الظُّلْمِ ذَكَّرَهُمْ بِتَفَضُّلِهِ عَلَيْهِمْ بِالتَّوْبَةِ ، ثُمَّ بِالْعَفْوِ الَّذِي هُوَ جَزَاءُ التَّوْبَةِ ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=52ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) هَذِهِ النِّعْمَةَ بِدَوَامِ التَّوْحِيدِ وَالطَّاعَةِ .
ثُمَّ قَفَّى عَلَى هَذَا بِذِكْرِ إِيتَائِهِمُ الْكِتَابَ وَهُوَ الْمِنَّةُ الْكُبْرَى ، فَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=53nindex.php?page=treesubj&link=31912_28973وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) . قَالَ الْمُفَسِّرُ (
الْجَلَالُ ) كَغَيْرِهِ : إِنَّ الْفُرْقَانَ هُوَ التَّوْرَاةُ ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31942الْفُرْقَانَ هُوَ مَا أُوتِيَهُ مُوسَى مِنَ الْآيَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ . وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ بَعْدَ حِكَايَةِ الْقَوْلَيْنِ : وَلَكِنَّ ذِكْرَهُ بَعْدَ الْكِتَابِ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا فِي الْكِتَابِ مِنَ الشَّرَائِعِ وَالْأَحْكَامِ الْمُفَرِّقَةِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْحَلَّالِ وَالْحَرَامِ ، وَمَعْنَى
[ ص: 264 ] قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=52لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) وَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=53لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) أَيْ : لِيُعِدَّكُمْ بِهَذَا الْعَفْوِ لِلْاسْتِمْرَارِ عَلَى الشُّكْرِ وَيَعِدَّكُمْ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ لِلْاهْتِدَاءِ وَيُهَيِّئَكُمْ لِلْاسْتِرْشَادِ ، فَلَا تَقَعُوا فِي وَثَنِيَّةٍ أُخْرَى ، وَإِنَّ مِنْ كَمَالِ الِاسْتِعْدَادِ لِلْهِدَايَةِ بِفَهْمِ الْكِتَابِ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ
مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ هُدًى وَنُورٌ يُرْجِعُهُمْ إِلَى الْأَصْلِ الَّذِي تَفَرَّقُوا عَنْهُ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَكَذَلِكَ اهْتَدَى بِهِ مِنْهُمُ الْمُسْتَبْصِرُونَ ، وَجَاحَدَهُ الرُّؤَسَاءُ الْمُسْتَكْبِرُونَ ، وَالْمُقَلِّدُونَ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ .