5 - اليونان والرومان وغيرهم : التثليث عند أهل أوربة :
جاء في كتاب ( سكان أوربة الأولين ) ما ترجمته : " كان الوثنيون القدماء يعتقدون أن الإله واحد ، ولكنه ذو ثلاثة أقانيم " .
وجاء في كتاب " ترقي الأفكار الدينية " ( ص 307 م ا ) : إن اليونانيين كانوا يقولون : إن الإله مثلث الأقانيم ، وإذا شرع قسيسوهم بتقديم الذبائح يرشون المذبح بالماء المقدس ثلاث مرات إشارة إلى الثالوث ويرشون المجتمعين حول المذبح ثلاث مرات ، ويأخذون البخور من المبخرة بثلاث أصابع ، ويعتقدون أن الحكماء قالوا : إنه يجب أن تكون جميع الأشياء المقدسة مثلثة ، ولهم اعتناء بهذا العدد في جميع شعائرهم الدينية . اهـ .
أقول : وقد اقتبست الكنيسة بعد دخول نصرانية قسطنطين فيهم هذه الشعائر كلها ، ونسخت بها شريعة المسيح التي هي التوراة ، ويسمون أنفسهم مع ذلك مسيحيين ويعملون كل شيء باسم المسيح ! فهل ظلم أحد من البشر بالافتيات عليه كما ظلم المسيح ، عليه السلام ؟ لا لا .
ونقل دوان عن أورفيوس أحد كتاب اليونان وشعرائهم قبل المسيح بعدة قرون أنه قال : " كل الأشياء صنعها الإله الواحد مثلث الأسماء والأقانيم " .
وقال فسك في ص ( 205 ) من كتاب ( الخرافات ومخترعوها ) : كان الرومانيون الوثنيون القدماء ، يؤمنون بالتثليث ، يؤمنون بالله أولا ، ثم بالكلمة ، ثم بالروح .
وقال بارخورست في القاموس العبراني كان للفنلنديين ( البرابرة الذين كانوا في شمال بروسية ) إله اسمه ( تريكلاف ) وقد وجد له تمثال في ( هرتونجر برج ) له ثلاثة رءوس [ ص: 77 ] على جسد واحد . أقول : تريكلاف مركب من كلمة : تري ، ومعناها ثلاثة ، وكلمة : كلاف ، ولعل معناها إله .
وقال دوان ( في ص 377 من كتابه ) : " كان الإسكندناويون يعبدون إلها مثلث الأقانيم يدعونها : أودين ، وتورا ، وفرى . ويقولون هذه الثلاثة الأقانيم إله واحد ، وقد وجد صنم يمثل هذا الثالوث المقدس بمدينة ( أوبسال ) من أسوج ، وكان أهل أسوج ونروج والدنمارك يفاخر بعضهم بعضا في بناء الهياكل لهذا الثالوث ، وكانت تكون جدران هذه الهياكل مصفحة بالذهب ، ومزينة بتماثيل هذا الثالوث ، ويصورون أودين بيده حسام ، وتورا واقفا عن شماله ، وعلى رأسه تاج بيده صولجان ، وفري واقفا عن شمال تورا ، وفيه علامة الذكر والأنثى . ويدعون أودين الآب ، وتورا الابن البكر أي ابن الأب أودين و " فري " مانح البركة والنسل والسلام والغنى . اهـ .
أقول : فهل ترك الأوربيون أديانهم الوثنية إلى دين المسيح ، عليه السلام ، الذي هو التوراة المبنية على أساس التوحيد الخالص ، أم ظلوا على وثنيتهم ، وأدخلوا فيها شخص المسيح ، وجعلوه أحد آلهتهم التي كانوا يعبدون من قبل . . . ؟ إنهم نقلوا عنه أنه ما جاء لينقض الناموس شريعة موسى ، وإنما جاء ليتممها ، ولكن مقدسهم بولس نقضها حجرا حجرا ولبنة لبنة ، إلا ذبيحة الأصنام والدم المسفوح ، والزنا الذي لا عقاب عليه عندهم ، فأراحهم ومهد لهم السبيل لتأسيس دين جديد لا يتفق مع دين المسيح ، عليه السلام ، في عقائده ولا في أحكامه ، ولا في آدابه ، وأبعد الناس عن دين المسيح الإفرنج الذين بذلوا الملايين من الدنانير لتنصير البشر كلهم باسم المسيح ، وغرضهم من ذلك استعباد جميع البشر بإزالة ملكهم وسلب أموالهم ; لتكون جميع لذات الدنيا وشهواتها وزينتها وعظمتها خالصة لهم ، فهل جاء المسيح لهذا ، وبهذا أمر أم بضده ؟
والله إنني لا أرى من عجائب أطوار البشر وقلبهم للحقائق ولبسهم الحق بالباطل أعجب وأغرب من وجود الديانة النصرانية في الأرض ! ديانة بنيت على أساس التوحيد الخالص المعقول ، جعلوها ديانة وثنية بتثليث غير معقول ، أخذوه من تثليث اليونان والرومان المقتبس من تثليث المصريين والبراهمة اقتباسا مشوها . ديانة شريعة سماوية ، نسخوا شريعتها برمتها وأبطلوها ، واستبدلوا بها بدعا وتقاليد غريبة عنها . ديانة زهد وتواضع وتقشف وإيثار وعبودية ، جعلوها ديانة طمع وجشع وكبرياء وترف وأثرة واستعباد للبشر . ديانة أصولها التي هم عليها مقتبسة من الوثنية الأولى ، لم ترد كلمة تدل على عقيدتها عن أنبياء بني إسرائيل ، ولكنهم زعموا أنها مستمدة من جميع كتب أنبياء بني إسرائيل ، ديانة نسبوها إلى المسيح ، عليه السلام ، وليس عندهم نص من كلامه في أصول عقيدتها التي هي التثليث ، وإنما بقي [ ص: 78 ] عندهم نصوص قاطعة من كلامه في حقيقة التوحيد والتنزيه وإبطال التثليث ، وعدم المساواة بين الآب والابن الذي أطلق لفظه مجازا عليه وعلى غيره من الأبرار ، على أنه كان يعبر عن نفسه في الأكثر بابن الإنسان .
لو لم يكن عندهم من النصوص في هذه العقيدة إلا ما رواه يوحنا في الفصل السابع عشر من إنجيله لكفى ، وهو قوله ، عليه السلام : ( 3 وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته ) فبين أن الله - تعالى - هو الإله وحده ، وأنه هو رسوله ، وهذا هو الذي دعا إليه القرآن ، وكان يجب أن يكون أساس عقيدتهم ، يرد إليه كل ما يوهم خلافه ، ولو بالتأويل ، لأجل المطابقة بين المعقول والمنقول .
ونقل مرقس في الفصل الثاني عشر من إنجيله أن أحد الكتبة سأله عن أول الوصايا قال : فأجابه يسوع : أول الوصايا : اسمع يا إسرائيل ، الرب إلهنا رب واحد . إلخ . . . 32 فقال له الكاتب : جيدا يا معلم بالحق قلت ، لأنه واحد وليس آخر سواه . . . 34 فلما رأى يسوع أنه أجاب بعقل قال له : لست بعيدا عن ملكوت السماوات ) فعلم من هذا أن التوحيد الخالص هو العقيدة المعقولة التي تؤخذ على ظاهرها بلا تأويل ، فإن فرضنا أنه ورد ما ينافيها ، وجب رده أو إرجاعه إليها .
وروى يوحنا عنه في الفصل الأول من إنجيله أنه قال : ( 28 الله لم يره أحد قط ) ومثله في الفصل الرابع من رسالة يوحنا الأولى : ( 12 الله لم ينظره أحد قط ) وفي الفصل السادس من رسالة بولس الأولى إلى أهل تيموثاوس : ( 16 لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه ) وقد رأى الناس المسيح والروح القدس .
وروى مرقس في الفصل الثالث عشر من إنجيله أنه قال في الساعة ويوم القيامة ما نصه: ( 32 وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلم يعلم بها أحد ، ولا الملائكة الذين في السماء ، ولا الابن إلا الآب ) فلو كان الابن عين الآب لكان يعلم كل ما يعلمه الآب ، وقوله ، عليه السلام ، في القيامة موافق لقول الله سبحانه في القرآن خطابا لخاتم رسله ، صلى الله عليه وسلم : قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ( 7 : 187 ) .
ولو كان هؤلاء النصارى يقبلون نصوص إنجيل برنابا لأتيناهم بشواهد منه على التوحيد مؤيدة بالبراهين العقلية والنقلية عن أن المسيح بشر رسول ، قد خلت من قبله الرسل ، وليس بدعا فيهم ، وناهيك بالفصل الرابع والستين منه الذي يحتج به المسيح بما آتى الله الأنبياء من الآيات على أن الآيات لا تنافي البشرية والعبودية لله تعالى ، وبالفصل الخامس والتسعين الذي يحتج فيه بأقوال الأنبياء في التوحيد ، وأنه - تعالى - خلق كل شيء بكلمته ، وأنه يرى ولا يرى ، وأنه غير متجسد وغير مركب وغير متغير ، وأنه لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ، ثم قال : [ ص: 79 ] ( 19 فإني بشر منظور ، وكتلة من طين تمشي على الأرض ، وفان كسائر البشر 20 ، وإنه كان لي بداية ، وسيكون لي نهاية ، وإني لا أقتدر أن أبتدع خلق ذبابة ) .
وحسبنا ما كتبناه هنا في مسألة التثليث الآن ، وسنبقي بقية مباحثها إلى تفسير سورة المائدة .