ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر الاستكبار : أن يجعل الإنسان نفسه كبيرة فوق ما هي ؛ غرورا وإعجابا ، فيحملها بذلك على غمط الحق ، سواء كان لله أو لخلقه وعلى احتقار الناس ، ومعنى الجملة : ومن يترفع عن عبادته أنفة ويتبرأ منها ، ويجعل نفسه كبيرة فيرى أنه لا يليق بها التلبس بها فسيحشرهم إليه جميعا أي فسيحشر هؤلاء المستنكفين والمستكبرين للجزاء ، مجتمعين مع غير المستكبرين والمستنكفين ، الذين ذكر بعضهم في أول الآية ، فإن الله يحشر الخلق كلهم ، في صعيد واحد ، كما ورد ، ثم يحاسبهم ويجزيهم عملهم ، كما يجزي غيرهم على النحو المبين في قوله :
فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله أي يعطيهم أجورهم على إيمانهم ، وعملهم الصالح وافية تامة ، كما يستحقون بحسب سنته - تعالى - في ترتيب الجزاء على تأثير الإيمان والعمل في النفس ، ويزيدهم عليه من محض فضله وجوده من عشرة أضعاف إلى سبعمائة ضعف إلى ما شاء . وتقدم الكلام في المضاعفة في تفسير سورة البقرة .
وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما أي فيعذبهم عذابا مؤلما ، كما يستحقون بحسب سنته - تعالى - أيضا ، ولكن لا يزيدهم على ما يستحقون شيئا ; لأن الرحمة سبقت الغضب ، فهو - تعالى - يجازي المحسن بالعدل والفضل ، ويجازي المسيء بالعدل فقط ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا أي ولا يجدون لهم من غير الله - تعالى - وليا يتولى شيئا من أمرهم يوم الجزاء والحساب ، ولا نصيرا ينصرهم ، فيدفع عنهم العذاب يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله ( 82 : 19 ) .
ومن مباحث اللفظ والإعراب في الآية : إفراد فعل يستنكف وما عطف عليه مراعاة للفظ من وجمع فعل فسيحشرهم مراعاة لمعناها ; فإنها من صيغ العموم ، ومنها : مسألة مطابقة التفصيل في هذه الآية للمفصل المذكور بصيغة العموم في آخر الآية التي قبلها .
قال بعضهم : إن التفصيل للمجازاة لا للمحشورين المجزيين ، فلا حاجة إلى المطابقة ، وذلك أن الجزاء لازم للحشر ; فبينه عقبه ، واختار هذا البيضاوي ، ورده السعد ، وقال : هو مثل قولك جمع الإمام الزمخشري الخوارج ، فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ، أي : أعطاه ما يركبه ، ومن خرج نكل به . وصحة ذلك لوجهين ، أحدهما : أن يحذف أحد الفريقين لدلالة الآخر عليه ، ولأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني ، كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله عقيب هذا : فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به .
[ ص: 81 ] والثاني : هو أن الإحسان إلى غيرهم مما يعمهم ، فكان داخلا في جملة التنكيل بهم ، فكأنه قيل : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين ، وبما يصيبه من عذاب الله . اهـ .
أقول : وقد يدل على حشر المستنكفين مع غيرهم قوله تعالى : جميعا كما أشرنا إليه ، وثم وجه آخر ، وهو أن القرآن كثيرا ما يذكر العاملين بصيغة مبتدأ ، يكون خبره محذوفا لدلالة الكلام أو القرينة عليه ، ولا سيما إذا كان شرطا كما هنا ، وكان جزاؤه كلاما عاما يشير إلى الخبر إشارة ضمنية ; كقوله تعالى : ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ( 8 : 49 ) وقوله : ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ( 57 : 24 ) ولا يبعد أن يكون ما هنا من هذا القبيل ، والمراد : ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر ، فسيجزيه إذ يحشر الناس كلهم للجزاء ، ثم فصل هذا الجزاء المشار إليه بذكر لازمه ، والله أعلم .