( ) خلاصة السورة
افتتحت السورة بالأمر بالتقوى ، وذكر بدء خلق الناس وتناسلهم ، ثم بالأحكام المتعلقة بالبيوت : الأهل والعشيرة ، وحقوق اليتامى والنساء المالية والأدبية ، ومنها فرائض المواريث ، وإرث النساء وعضلهن ، وعقاب من يأتي الفاحشة من الجنسين ، ومحرمات النكاح ومحللاته ، وغير ذلك من أحكام الأزواج وحقوق الزوجية ، فهذا نسق واحد في خمس وثلاثين آية ، تتخللها على سنة القرآن الوصية بالتقوى ، والترغيب في الطاعة والوعد عليها ، والوعيد على المعاصي ، وغير ذلك من المواعظ التي تغذي الإيمان بالله وتزكي النفس .
يلي ذلك محاجة أهل الكتاب من اليهود ، ممهدا لها بالأمر بعبادة الله وحده والنهي عن الشرك ، والأمر بالإحسان بالوالدين والأقربين واليتامى والمساكين والجيران ، وتشنيع البخل وكتمان نعم الله ، ووعيد الكفر وعصيان الرسول . وذلك في بضع آيات ليس فيها من آيات الأحكام شيء ، إلا ما ختمت به من آيات التيمم المفتتحة بالنهي عن الصلاة في حال السكر ، ثم صرح بعدها بحكاية أحوال اليهود في دينهم وأخلاقهم ، وبين ما في ذلك من العبر ، وما يستحقون عليه من الوعيد ; ليعلم منه سنة الله وحكمه فيمن يعمل مثل عملهم ، وتكون حاله كحالهم ، كما وعد من كان على ضد ذلك ; وهو الإيمان والصلاح لأجل العبرة والقدوة ، وذلك من الآية 44 إلى الآية 57 .
ولما كان في بيان أحوال اليهود ذكر لحالهم في الملك لو كان لهم نصيب منه ، وهو الأثرة وحرمان غيرهم من أقل منفعة ، بين عقبه ما يجب أن تؤسس عليه الحكومة الإسلامية ، وهو أداء الأمانات إلى أهلها ، والحكم بين الناس كلهم بالعدل بلا محاباة ، وإطاعة الله فيما جاء في الكتاب من الأحكام ، وإطاعة رسوله فيما مضت به سنته من بيانها والقضاء بها أو باجتهاده صلى الله عليه وسلم ، وأولي الأمر ، وهم أهل الحل والعقد فيما يضعون للناس من النظام المدني والسياسي مما يحتاجون إليه بحسب المصالح العامة في كل عصر ، فيكون ما يضعونه مطاعا في الدرجة الثالثة .
ثم شرع في بيان أحوال المنافقين وأخلاقهم ، وما يجب أن يعاملوا به ، وأهم ذلك [ ص: 94 ] أحوالهم ومعاملتهم في وقت القتال ; ولهذه المناسبة ذكرت أحكام وحكم ، ومواعظ كثيرة تتعلق بالقتال والهجرة والأمان ، وقتل الخطأ والعمد ، وصلاة الخوف والسفر ، وقد أكد في أثناء هذه الآيات أمر طاعة الله ورسوله ، فهذا سياق بدئ من الآية ( 60 ) وانتهى إلى الآية ( 104 ) .
بعد هذا جاءت آيات في خطاب الرسول بالحكم بين الناس بما أراه الله في كتابه ، والإشارة إلى واقعة أراد بعضهم أن يحابي الرسول فيها بعض المسلمين على أهل الكتاب ، وعقبها بما يناسب هذا المقام من الوعظ والوعيد ، ولاسيما وعيد من يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ، ثم مسألة جواز المغفرة لما عدا الشرك يتبعها بيان شيء من ضلال مشركي العرب ، ثم بيان أن أمر النجاة في الآخرة منوط بالإيمان والعمل ، لا بالأماني والانتساب إلى دين شريف ونبي مرسل . فكانت أحكام هذه الآيات ومواعظها في شئون أهل الكتاب والمشركين والمؤمنين جميعا ، ومزايا الإسلام ; ولذلك ختمها ببيان حسن ملة إبراهيم الحنيفية ، وهو المتفق على فضله عند هذه الطوائف كلها ، ويمتد هذا السياق إلى الآية ( 125 ) .
تلا ذلك آيات في أحكام النساء واليتامى ، والمستضعفين من الولدان ، ونشوز النساء والعدل بينهن والإصلاح بين الأزواج وتفرقهم ، دعمت بآيات في الوصية بالتقوى والتذكير بالله - تعالى - ووعده ووعيده ، والأمر بالمبالغة في القيام بالقسط والشهادة بالحق ، ولو على الأقربين والأغنياء والفقراء من غير محاباة ولا شفقة ، وذلك في نحو من عشر آيات .
ثم عاد إلى الكلام في أحوال المنافقين ، بعد التمهيد له بالأمر بالإيمان وذكر أركانه ووعيد الذين يتقلبون ويتذبذبون فيه ، فذكر موالاتهم للكافرين وسببها ومنشأها من نفوسهم ، ومخادعتهم لله ووعيدهم وجزاءهم ، وجزاء من تاب وأصلح منهم ، وجزاء المؤمنين الصادقين ، وقد انتهى ذلك بالآية ( 147 ) وهي آخر الجزء الخامس .
ثم انتقل منه إلى أحوال أهل الكتاب في الإيمان والكفر ، عودا على بدء . فافتتح بحكم الجهر بالسوء من القول ، وكون الأصل فيه القبح والذم ، وحسن مقابله وهو إبداء الخير في القول والعمل ، وبعد هذا ذكر الذين يفرقون بين الله ورسله بدعوى الإيمان ببعض والكفر ببعض ، وبيان عراقة هذا في الكفر ، وما يقابله من الإيمان بالجميع ، وقفى على ذلك ببيان مشاغبة اليهود للنبي - صلى الله عليه وسلم - وحجته - تعالى - عليهم بمعاندة موسى ، وعبادة العجل ، ونقض ميثاق الله ، وقتل الأنبياء ، وإيذاء المسيح وأمه والافتخار بدعوى قتله ، وختم ذلك ببيان حال الراسخين في العلم منهم والمؤمنين ، وذلك في نصف حزب ينتهي بالآية ( 162 ) .
بعد هذا أقام الله حجته على صحة نبوة خاتم رسله بكون وحيه إليه كوحيه إلى من قبله منهم ، وكونه بعث الرسل إلى كل الأمم ، أي : فلم يجعله خاصا ببني إسرائيل ، وكونه - [ ص: 95 ] تعالى - يشهد بما أوحاه إلى رسوله ; إذ جعله مقرونا بالعلم الأعلى ، منزلا على الأمي الذي لم يتعلم شيئا ، وختم هذا ببيان حال من يكفر به ، وغايته التي يأول إليها ، ودعوة الناس كافة إلى الإيمان به . فتم هذا السياق ببضع آيات .
ثم انتقل الكلام إلى إقامة الحجة على النصارى وإبطال عقيدة التثليث ، وإثبات الوحدانية ، وبيان ما هو المسيح ، وختمها بالوعد والوعيد ، وبيان أن محمدا رسوله تعالى برهان ، وكتابه نور ، ودعوة الناس كافة إلى الاهتداء بهما ، ووعد من اعتصم بهذا الكتاب بالرحمة والفضل الإلهيين ، وهداية الصراط المستقيم الذي يصل سالكه إلى سعادة الدارين ، وهذا هو ختم هذه السورة الحكيمة التي بين الله فيها أصول الحكومة الإسلامية ، وأهم فرائضها وأحكامها ، وناهيك بأحكام النساء والأهل والمواريث والنكاح وحقوق الزوجية ، والإيمان والشرك والتوبة والقتال ، وشئون المنافقين وأهل الكتاب ودحض شبهاتهم ، فهي أعظم السور الطوال فوائد وأحكاما وحججا .
وأما الآية الأخيرة منها ، فهي ذيل للسورة في فتوى متممة لأحكام الفرائض التي في أوائلها ، وقد بينا غير مرة الحكمة في أسلوب المزج في القرآن . وأما فائدة الأحكام أو المسائل التي تجعل ذيلا أو ملحقا لكتاب أو قانون ; فهي أن الذهن يتنبه إليها أفضل تنبه ، فلا يغفل عنها كما يغفل عما يكون مندمجا في أثناء أحكام أو مسائل كثيرة من ذلك النوع ، فكأن جعل هذه الآية مفردة على غير فواصل السورة يراد به توجيه النفوس إليها لئلا تغفل عنها ، وهذا الأسلوب صار مألوفا هذا العصر عند كثير من أمم العلم ، حتى في المراسلات الخاصة يجعلون للرسالة ذيلا يسمونه حاشية ، كما يكون ممن نسي مسألة ثم تذكرها بعد إتمام الرسالة وإمضائها بكتابة اسمه في آخرها ، وهم يتعمدون ذلك كثيرا ; لما ذكرنا من الغرض ، والله أعلم وأحكم .
( يقول محمد رشيد مؤلف هذا التفسير : قد وفقني الله - تعالى - لإتمام تفسير هذه السورة في شهر ربيع الآخر سنة ( 1331هـ ) وإياه أسأل أن يوفقني لإتمام تفسير كتابه ، ويؤيدني فيه بروح الحق ) .