" وأما ثانيا : فإن ، فاختلف أهل الأصول هل يقدم الكتاب على السنة أم بالعكس أم هما متعارضان ؟ وقد تكلم الناس في حديث الكتاب والسنة إذا تعارضا معاذ ، ورأوا أنه خلاف الدليل ، فإن كل ما في الكتاب لا يقدم على كل السنة ; فإن الأخبار المتواترة لا تضعف في الدلالة عن أدلة الكتاب وأخبار الآحاد في محل الاجتهاد مع ظواهر الكتاب ; ولذلك وقع الخلاف ، وتأولوا التقديم في الحديث على معنى البداية بالأسهل الأقرب وهو الكتاب ، فإذا كان الأمر على هذا فلا وجه لإطلاق القول بتقديم الكتاب بل المتبع الدليل .
[ ص: 134 ] " فالجواب : أن قضاء السنة على الكتاب ليس بمعنى تقديمها عليه وإطراح الكتاب ، بل إن ذلك المعبر في السنة هو المراد في الكتاب ، فكأن السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب ، ودل على ذلك قوله : لتبين للناس ما نزل إليهم ( 16 : 44 ) فإذا حصل بيان قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ( 5 : 38 ) بأن القطع من الكوع ، وأن المسروق نصاب فأكثر من حرز مثله ; فذلك هو المعنى المراد من الآية ، لا أن نقول إن السنة أثبتت هذه الأحكام دون الكتاب ، كما إذا بين مالك أو غيره من المفسرين معنى آية أو حديث ، فعملنا بمقتضاه ، فلا يصح لنا أن نقول : إننا عملنا بقول المفسر الفلاني ، دون أن نقول عملنا بقول الله أو قول رسوله عليه السلام . وهكذا سائر ما بينته السنة من كتاب الله ، فمعنى كون السنة قاضية على الكتاب ; أنها مبينة له ، فلا يوقف مع إجماله واحتماله وقد بينت المقصود منه لا أنها مقدمة عليه .
" وأما خلاف الأصوليين في التعارض ، فقد مر في أول كتاب الأدلة أن خبر الواحد إذا استند إلى قاعدة مقطوع بها فهو في العمل مقبول ، وإلا فالتوقف ، وكونه مستندا إلى مقطوع به راجع إلى أنه جزئي تحت معنى قرآني كلي ، وتبين معنى هذا الكلام هنالك ، فإذا عرضنا هذا الموضع على تلك القاعدة ، وجدنا المعارضة في الآية والخبر معارضة أصلين قرآنيين ، فيرجع إلى ذلك ، وخرج عن معارضة كتاب مع سنة ، وعند ذلك لا يصح هذا التعارض إلا من تعارض قطعيين ، وأما إذا لم يستند الخبر إلى قاعدة قطعية ، فلا بد من تقديم القرآن على الخبر بإطلاق .
" وأيضا فإن ما ذكر من تواتر الأخبار ، إنما غالبه فرض أمر جائز ، ولعلك لا تجد في الأخبار النبوية ما يقضي بتواتره إلى زمن الواقعة ، فالبحث المذكور في المسألة بحث في غير واقع أو نادر الوقوع ، ولا كبير جدوى فيه ، والله أعلم .