وجملة القول : أن - للناس ما نزل إليهم فيه ، فما صح من بيانه لا يعدل عنه إلى غيره ، وما بعد سنته نور يهتدى به في [ ص: 138 ] فهم أحكامه للعالم بلغته مثل إجماع الصحابة ، أو عمل السواد الأعظم منهم وممن تبعهم في هداهم ، فمن رغب عن سنتهم ضل وغوى ولم يسلم من اتباع الهوى ، وأما ما توسع فيه بعض المصنفين في الفقه بعد الصحابة والتابعين من أحكام العبادات والحلال والحرام بدعوى القياس الشرعي فهو ينافي إكمال الدين ويسره ، ورفع الحرج منه ، وقد أنكر بعض أئمة العلماء هذا القياس ، وخصه بعضهم بما عدا العبادات ، وفي معناها الحلال والحرام ، على أنهم يستنبطون من عبارات شيوخهم فيجعلونها كنصوص الشرع ، وإن لم تضبط بالرواية كما ضبطت نصوص الشرع ، ويعدون تعليلاتهم كتعليلات الكتاب والسنة ، فيجعلونها دليلا على الأحكام ومدارا للاستنباط ، بل صاروا يقدمونها على الكتاب والسنة ، فما وافقها منهما جعلوه دليلا لها ، وما خالفته منهما أوجبوا العمل بها دونهما ، فصارت أحكام الدين المستنبطة على هذه الطريقة أضعاف أضعاف الأحكام المنصوصة ، وهجر الكتاب والسنة لأجلها ، فهل يتفق هذا مع الاعتقاد بأن الله أكمل الدين بكتابه ، وبينه بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؟ أما القياس الصحيح وما نيط منه بأولي الأمر من المؤمنين ، فقد بيناه في تفسير الله - تعالى - أكمل الدين بالقرآن وبيان نبيه - صلى الله عليه وسلم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ( 4 : 59 ) وسيأتي لهذه المباحث مزيد في تفسير لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ( 5 : 101 ) من هذه السورة إن شاء الله تعالى .
والمختار عندنا في إكمال الدين ما قاله ، وتبعه عليه الجمهور ، من أن المراد بالدين فيه عقائده وأحكامه وآدابه ( العبادات وما في معناها بالتفصيل ، والمعاملات بالإجمال ونوطها بأولي الأمر ) ويدخل فيه ما اختاره ابن عباس من أمر الحج دخولا أوليا بقرينة الحال ; أمر القوة واكتفاء أمر المشركين ، قد علم من قوله ابن جرير اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ( 5 : 3 ) ويزيده تقريرا وتأكيدا قوله : وأتممت عليكم نعمتي ( 5 : 3 ) ولولا أن المراد بالدين جملته ومجموعه لما قال : ورضيت لكم الإسلام دينا ( 5 : 3 ) . فالعجب من كيف أذهله ما توهمه من تعارض الروايات عن هذا النص ! . ابن جرير
هذا وإن قول رضي الله عنه : إن الله أكمله فلا ينقصه أبدا ، أثبت وأظهر من قول ابن عباس عمر رضي الله عنه : ما بعد الكمال إلا النقص ، إلا أن يجمع بينهما بأن أراد الدين نفسه ، ابن عباس وعمر أراد قوة الأخذ والاستمساك به والإخلاص فيه ; إذ لا شك في أن هذا المعنى كان في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أتم وأكمل ، فالراجح أنه هو مراد عمر ، ويؤيده ما روي عنه أنه فهم من الآية قرب وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وروي ذلك عن أبي بكر [ ص: 139 ] أيضا ، رضي الله عنهما وعن سائر الآل والصحب الصادقين المخلصين ، الذين حفظوا لنا بحفظ القرآن والعمل به وبالسنة ، هذا الدين ، فالعمدة في معرفته حق المعرفة القرآن والسنة العملية التي لم تعرف إلا بجريهم عليها ، ولا سعة لمسلم أن يخرج عن هذين الأمرين باجتهاده ورأيه ، أما ما لم يجر عليه العمل ، ولم يرد في القرآن من أخبار الآحاد القولية أو العملية التي لم تكن سنة متبعة للسواد الأعظم منهم ، فهي التي يجوز أن تكون محلا لاجتهاد المجتهدين من حيث صحة روايتها وتحقيق المراد منها ، وسلامتها من المعارضة ، والترجيح بين المتعارضات منها ، ولا يصح أن يكون شيء من ذلك عقيدة ، ولا أمرا كليا من أمور الدين ; إذ لو صح هذا لكان منافيا لمنة الله على المؤمنين كافة بأنه أكمل لهم الدين ، وأتم عليهم النعمة ، ولا يعقل أن يكون هذا الإكمال والإتمام متوقفا على ما لم يطلع عليه إلا الآحاد من الناس ، بل يكون هذا النوع في الفروع والمسائل الجزئية التي ينفع العلم بها ولا يضر أحدا في دينه أن يجهلها ; ولهذا لم يشترط أحد من العلماء في الاجتهاد والإمامة في فهم الدين الإحاطة بأحاديث الآحاد المتعلقة بهذه الجزئيات .