فقوله تعالى : من قبلكم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب معناه أنهن حل لكم مطلقا ; لأنه معطوف على قوله وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وهل المحصنات هنا الحرائر أو العفيفات - أي غير الزواني - فلا فرق بين المسلمة والكتابية ؟ خلاف سيأتي تحقيقه ، وخص بعضهم الكتابية بالذمية ، وقال بعضهم : إنه عام فلا فرق بين الذمية والحربية ، ومن قال المراد بالمحصنات : الحرائر ، منع نكاح الكتابية المملوكة ، وبه قال ، وقووه بقوله - تعالى - في سورة النساء : الشافعي ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ( 4 : 25 ) وقد يقال : إن هذا [ ص: 150 ] علق هنالك على العجز عن المحصنات المؤمنات فقط ; لأن الله - تعالى - لم يكن أحل المحصنات الكتابيات وقد أحلهن هنا ، فصارت حرائرهن كحرائر المسلمات ، وإماؤهن كإمائهن ، وقول : اجتمع في الأمة الكتابية نقصان : الكفر والرق ، لا يقتضي التحريم ، وإنما المقتضي له نص الشارع ; ككون المراد بالمحصنات : الحرائر ، وهو محل النظر والخلاف ، وأيده الشافعي بأمر ابن جرير عمر بتزويج من زنت وكادت تبخع نفسها ، فأنقذت ، وبعد البرء استشير .
وروى عدة روايات في هذا المعنى كأنه يريد أن العفة لا تشترط في النكاح ، وأن عمر كان يجيز ، وليس هذا هو مراد نكاح الزانية عمر ، وإنما أراد أنها خرجت بالتوبة من كونها زانية ، والروايات صريحة في ذلك ، ففي بعضها : أليس قد تابت ؟ قال السائل : بلى ، وفي رواية المرأة الهمدانية التي شرعت في ذبح نفسها فأدركوها ، فداووها ، فبرئت ، قال لهم : أنكحوها نكاح العفيفة المسلمة ، وفي رواية له : أن رجلا من أهل اليمن أصابت أخته فاحشة فأمرت الشفرة على أوداجها فأدركت ، فداوى جرحها حتى برئت ، ثم إن عمها انتقل بأهله حتى قدم المدينة ، فقرأت القرآن ، ونسكت حتى كانت من أنسك نسائهم ، فخطبت إلى عمها ، وكان يكره أن يدلسها ويكره أن يفشي على ابنة أخيه ، فأتى عمر فذكر ذلك له ، فقال عمر : لو أفشيت عليها لعاقبتك ، إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوجها إياه . وفي رواية أخرى : أتى رجل عمر فقال : إن ابنة لي كانت وئدت في الجاهلية فاستخرجتها قبل أن تموت ، فأدركت الإسلام فلما أسلمت أصابت حدا من حدود الله فعمدت إلى الشفرة لتذبح نفسها فأدركتها ، وقد قطعت بعض أوداجها فداويتها حتى برئت ، ثم إنها أقبلت بتوبة حسنة فهي تخطب إلي يا أمير المؤمنين ، فأخبر من شأنها بالذي كان ؟ فقال عمر : أتخبر بشأنها ؟ تعمد إلى ما ستره الله فتبديه ؟ والله لئن أخبرت بشأنها أحدا من الناس لأجعلنك نكالا لأهل الأمصار ، بل أنكحها بنكاح العفيفة المسلمة .
وروى أيضا عن ابن جرير الحسن قال ، قال : لقد هممت ألا أدع أحدا أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة ، قال له عمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين الشرك أعظم من ذلك ، وقد يقبل منه إذا تاب . اهـ . أبي بن كعب
والإباضية يشددون في النكاح بعد الزنا ، لا فرق عندهم بين من تاب ومن لم يتب ، ولما كنت في " مسقط " في العام الماضي ( 1330 هـ ) كانت قد عرضت واقعة في ذلك على السلطان السيد فيصل فسألني عنها ، فقلت : إن الأصل في هذه المسألة قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين ( 24 : 3 ) ولما كانت التوبة من الشرك تبيح نكاح التي آمنت وإنكاح الذي آمن ، والشرك أقوى المانعين والإباضية مجمعون مع سائر المسلمين على ذلك ، كان ينبغي بالأولى أن يجيزوا مثل ذلك في التوبة من الزنا ، وهو ما أجمع عليه سائر المسلمين .
روي القول بأن المراد بالمحصنات هنا الحرائر عن ابن عباس ومجاهد واختاره [ ص: 151 ] والقول بأنهن العفيفات عن ابن جرير مجاهد أيضا وعن سفيان والحسن والشعبي والسدي والضحاك ، وزاد بعضهم الاغتسال من الجنابة . قال الشعبي وعامر : إحصان اليهودية والنصرانية ألا تزني وأن تغتسل من الجنابة .
وجملة القول : أن مفسري السلف اختلفوا في المحصنات هنا فقال جماعة منهم : هن الحرائر . وجماعة : هن العفائف عن الزنا ، وكلا المعنيين صحيح ، فإذا جاز استعمال اللفظ فيهما على قول من يقول باستعمال المشترك في معنييه ، واللفظ في حقيقته ومجازه فهو يتناولهما معا ، وإلا فالراجح المختار أن المراد بالمحصنات هنا الحرائر . وتحريم نكاح الزواني يعرف من آية سورة النور ، وما هنا لا ينافيه ، ذلك بأن نكاح الإماء المسلمات يشترط فيهن العجز عن الحرائر ، كما في سورة النساء ، وتقدم آنفا ، فالكتابيات بالأولى ، والحل هنا مطلق في الفريقين ، وإنما يصح الإطلاق في الحرائر دون الإماء بالإجماع ، ولم يقل أحد من المسلمين بنسخ ما اشترط في نكاح الأمة هنالك بما هنا ، وتفسير المحصنات بالعفائف لا يدخل في عمومه الإماء بالنص ; لأن الأصل في الخطاب الأحرار ، والحرائر بالرق أمر عارض ; ولذلك احتيج إلى النص على نكاحهن في سورة النساء ، والغالب فيهن عدم العفة ، فإذا صح هذا - خلافا لمن أدخل الإماء في عمومه من المفسرين - لا يبقى وجه لإحلال الأمة الكتابية إلا القياس على الأمة المسلمة ، ومن قال : إن الأمة تدخل في عموم المحصنات بمعنى العفيفات ، فلا مندوحة له عن اشتراط استطاعة عدم نكاح حرة مسلمة أو كتابية لصحة نكاحها ، إما بقياس الأولى ، وإما باعتبار ذلك الشرط نفسه هنا من قبيل تقييد المطلق بقيد المقيد ، وعليه الجمهور في حال اتحاد الحكم والسبب كما هنا ، ونقل بعضهم الاتفاق عليه كأنه لضعف الخلاف فيه لم يعتد به .