المسح على الخفين  وما في معناهما : ورد في المسح أحاديث كثيرة متفق على صحتها بين المحدثين ، قال النووي في شرح مسلم : " وقد روى المسح على الخفين خلائق لا يحصون من الصحابة " قال الحسن    : " حدثني سبعون من أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يمسح على الخفين   " أخرجه  ابن أبي شيبة    . وقال الحافظ ابن حجر  في فتح الباري : " وقد صرح جمع من الحفاظ بأن المسح على الخفين متواتر ، وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين ، منهم العشرة " . ونقل ابن المنذر  عن  ابن المبارك  أنه ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف ; لأن كل من روي عنه منهم إنكاره ، فقد روي عنه إثباته " . 
وأقوى الأحاديث حجة فيه ، حديث جرير  ، فقد روى عنه أحمد  والشيخان وأبو داود   والترمذي    : " أنه بال ثم توضأ ومسح على خفيه ، فقيل له : تفعل هكذا ؟ قال : نعم ، رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بال ثم توضأ ومسح على خفيه   " قال أبو داود    : فقال جرير  لما سئل : هل كان هذا قبل المائدة أو بعدها ؟ : " ما أسلمت إلا بعد المائدة   " وفي الترمذي  مثل هذا ، وقال الترمذي    : " هذا حديث مفسر ; لأن بعض من أنكر المسح على الخفين تأول مسح النبي   [ ص: 195 ]   - صلى الله عليه وسلم - على الخفين أنه كان قبل نزول آية الوضوء التي في المائدة ; فيكون منسوخا " انتهى . ومثله حديث المغيرة  ، وسيأتي . 
وهذا التأول هو سبب إنكار بعض الصحابة للمسح بعد المائدة . وكأنه لما استفاض بينهم النقل عن مثل جرير  والمغيرة  رجعوا عن الإنكار ، وما روي في الإنكار عن علي   وأبي هريرة  وعائشة  لا يصح ، بل صح المسح عن علي   وأبي هريرة  ، بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في نيل الأوطار : وأما القصة التي ساقها الأمير الحسين  في الشفاء ، وفيها المراجعة الطويلة بين علي  وعمر  ، واستشهاد علي  لاثنين وعشرين من الصحابة فشهدوا بأن المسح كان قبل المائدة فقال ابن بهران  ، من علماء الشيعة الزيدية    : " لم أر هذه القصة في شيء من كتب الحديث ، ويدل لعدم صحتها عند أئمتنا أن الإمام المهدي  نسب القول بمسح الخفين في البحر إلى علي  ، عليه السلام " انتهى . 
ونقول : هب أنها صحت ، أليس قصاراها إثبات المسح قبل المائدة ، ونفيه بعدها بطريق اللزوم أو النص ؟ أوليس من القواعد أن المثبت مقدم على النافي ؟ بلى ، والصواب أن النقل الثابت المتواتر عن الصحابة هو المسح ، وأن ما روي خلافه لا يعارضه ، وقد عرف أن سببه ، إما عدم رؤية المسح ، وإما ظن أنه قد نسخ ، ثم عرف جمهورهم أنه لم ينسخ ، وجرى على ذلك العمل . 
وأما فقهاء المذاهب وعلماء الأمصار فقد اتفق أهل السنة منهم على جواز المسح . 
قال الحافظ  ابن عبد البر    : " لا أعلم من روى عن أحد من فقهاء السلف إنكاره إلا عن مالك  ، مع أن الروايات الصحيحة مصرحة عنه بإثباته " انتهى . 
وقال  ابن رشد الحفيد  في بداية المجتهد ، في المسألة الأولى من مسائل المسح : فأما الجواز ففيه ثلاثة أقوال : القول المشهور : أنه جائز على الإطلاق ، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار ، والقول الثاني : جوازه في السفر دون الحضر ، والقول الثالث : منع جوازه بإطلاق ، وهو أشذها ، والأقاويل الثلاثة مروية عن الصدر الأول ، وعن مالك  ، والسبب في اختلافهم ما يظن من معارضة آية الوضوء الواردة في الأمر بغسل الأرجل للآثار التي وردت في المسح ، مع تأخر آية الوضوء ، وهذا الخلاف كان بين الصحابة في الصدر الأول ; فكان منهم من يرى أن آية الوضوء ناسخة لتلك الآثار ، وهو مذهب  ابن عباس  ، واحتج القائلون بجوازه بما رواه مسلم    : " أنه كان يعجبهم حديث جرير  ، وذلك أنه روى أنه رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح على الخفين ، فقيل له : إنما كان ذلك قبل نزول المائدة ، فقال : ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة   " . وقال المتأخرون القائلون بجوازه : ليس بين الآية والآثار تعارض ; لأن الأمر بالغسل متوجه إلى من لا خف له ، والرخصة إنما هي للابس الخف ، وقيل : إن تأويل قراءة الأرجل بالخفض ، هو المسح على الخفين . وأما من فرق بين السفر والحضر ، فلأن أكثر الآثار الصحاح الواردة في مسحه ، صلى الله عليه وسلم   [ ص: 196 ] ، إنما كانت في السفر ، مع أن السفر مشعر بالرخصة والتخفيف ، والمسح على الخفين هو من باب التخفيف ; فإن نزعه مما يشق على المسافر " انتهى كلام ابن رشد    . 
ويرد حجة المفرقين بين السفر والحضر ، الأحاديث الصحاح في التوقيت ، وسيأتي الكلام فيه وموافقة مسح الخفين لمسح العمامة ولحكمة التشريع ، ويؤيدها اشتراط لبس الخفين على طهارة ، وسيأتي . 
ونقل في نيل الأوطار إثبات المسح في السنة ، وتواتره عن الصحابة ، واتفاق علماء السلف عليه ، إلا ما روي عن مالك  من الخلاف في جوازه مطلقا ، أو للمسافر دون المقيم ، وعن ابن نافع  في المبسوط ، أن مالكا  إنما كان يتوقف في خاصة نفسه مع إفتائه بالجواز . 
ثم قال : وذهبت العترة جميعا ، والإمامية  والخوارج  وأبو بكر بن داود الظاهري  إلى أنه لا يجزئ المسح عن غسل الرجلين ، واستدلوا بآية المائدة ، وبقوله - صلى الله عليه وسلم - لمن علمه : " واغسل رجلك " ولم يذكر المسح ، وقوله بعد غسلهما : " لا يقبل الله الصلاة بدونه   " قالوا : والأخبار بمسح الخفين منسوخة بالمائدة ، وأجيب عن ذلك . 
ثم ذكر الأجوبة ، فقال ما نصه : أما الآية فقد ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - المسح بعدها ، كما في حديث جرير  المذكور في الباب ، وأما حديث : " واغسل رجلك   " فغاية ما فيه الأمر بالغسل ، وليس فيه ما يشعر بالقصر ، ولو سلم وجود ما يدل على ذلك لكان مخصصا بأحاديث المسح المتواترة ، وأما حديث : " لا يقبل الله الصلاة بدونه   " فلا ينتهض للاحتجاج به ، فكيف يصلح لمعارضة الأحاديث المتواترة ، مع أنا لم نجده بهذا اللفظ من وجه يعتد به ، وأما حديث " ويل للأعقاب من النار   " فهو وعيد لمن مسح رجليه ، ولم يغسلهما ، ولم يرد المسح على الخفين ، فإن قلت : هو عام فلا يقصر على السبب ، قلت : لا نسلم شموله لمن مسح على الخفين ; فإنه يدع رجله كلها ولا يدع العقب فقط ، سلمنا . فأحاديث المسح على الخفين مخصصة للماسح من ذلك الوعيد . وأما دعوى النسخ فالجواب أن الآية عامة أو مطلقة باعتبار حالتي لبس الخف وعدمه ، فتكون أحاديث الخفين مخصصة أو مقيدة فلا نسخ ، وقد تقرر في الأصول رجحان القول ببناء العام على الخاص مطلقا  ، وأما من يذهب إلى أن العام المتأخر ناسخ فلا يتم له ذلك إلا بعد تصحيح تأخر الآية ، وعدم وقوع المسح بعدها ، وحديث جرير  نص في موضع النزاع ، والقدح في جرير  بأنه فارق عليا  ممنوع ; فإنه لم يفارقه وإنما احتبس عنه بعد إرساله إلى معاوية  لأعذار ، على أنه قد نقل الإمام الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير  الإجماع على قبول رواية فاسق التأويل في عواصمه وقواصمه  من عشر طرق ، ونقل الإجماع أيضا من طرق أكابر أئمة الآل وأتباعهم على قبول رواية الصحابة قبل الفتنة وبعدها  ، فالاسترواح إلى الخلوص عن أحاديث المسح ، بالقدح في ذلك الصحابي الجليل بذلك الأمر ، مما لم يقل به أحد من العترة ، وأتباعهم ، وسائر علماء   [ ص: 197 ] الإسلام ، وصرح الحافظ في الفتح بأن آية المائدة نزلت في غزوة المريسيع  ، وحديث المغيرة  الذي تقدم وسيأتي ، كان في غزوة تبوك  ، وتبوك متأخرة بالاتفاق ، وقد صرح أبو داود  في سننه بأن حديث المغيرة  في غزوة تبوك  ، وقد ذكر البزار  أن حديث المغيرة  هذا رواه عنه ستون رجلا . 
" واعلم أن في المقام مانعا من دعوى النسخ ، لم يتنبه له أحد فيما علمت ، وهو أن الوضوء ثابت قبل نزول المائدة بالاتفاق ، فإن كان المسح على الخفين ثابتا قبل نزولها فورودها بتقرير أحد الأمرين - أعني الغسل مع عدم التعرض للآخر ، وهو المسح - لا يوجب نسخ المسح على الخفين ، لا سيما إذا صح ما قاله البعض من أن قراءة الجر في قوله في الآية وأرجلكم مراد بها مسح الخفين ، وأما إذا كان المسح غير ثابت قبل نزولها فلا نسخ بالقطع ، نعم يمكن أن يقال على التقدير الأول : إن الأمر بالنسخ نهي عن ضده ، والمسح على الخفين من أضداد الغسل المأمور به ، لكن كون الأمر بالشيء نهيا عن ضده محل نزاع واختلاف ، وكذلك كون المسح على الخفين ضد الغسل ، وما كان بهذه المثابة حقيق بألا يعول عليه ، لا سيما في إبطال مثل هذه السنة التي سطعت أنوار شموسها في سماء الشريعة المطهرة " . 
" والعقبة الكئود في هذه المسألة ، نسبة القول بعدم إجزاء المسح على الخفين إلى جميع العترة المطهرة ، كما فعله الإمام المهدي  في البحر ، ولكنه يهون الخطب بأن إمامهم وسيدهم أمير المؤمنين  علي بن أبي طالب  من القائلين بالمسح على الخفين ، وأيضا هو إجماع ظني ، وقد صرح جماعة من الأئمة ، منهم الإمام  يحيى بن حمزة  بأنها تجوز مخالفته . وأيضا فالحجة إجماع جميعهم ، وقد تفرقوا في البسيطة ، وسكنوا الأقاليم المتباعدة ، وتمذهب كل واحد منهم بمذهب أهل بلده ، فمعرفة إجماعهم في جانب التعذر ، وأيضا لا يخفى على المنصف ما ورد على إجماع الأمة من الإيرادات التي لا يكاد ينتهض معها للحجية ، بعد تسليم إمكانه ووقوعه ، وانتفاء حجية الأعم يستلزم حجية الأخص " انتهى . 
أقول : أما حديث  المغيرة بن شعبة  الذي أشار - كما أشرنا - إليه ، وقال : إنه كان في غزوة تبوك  وقال : إنه تقدم وسيأتي ، فهو كما جاء في باب جواز المعاونة على الوضوء من المتن ، وعزاه إلى الصحيحين : " أنه كان مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر ، وأنه ذهب لحاجة له ، وأن مغيرة  جعل يصب الماء عليه وهو يتوضأ ، فغسل وجهه ويديه ، ومسح برأسه ، ومسح على الخفين   " قال في الشرح : الحديث اتفقا عليه بلفظ : " كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فقال لي : يا مغيرة  خذ الإداوة . فأخذتها ثم خرجت معه ، وانطلق حتى توارى عني حتى قضى حاجته ، ثم جاء وعليه جبة شامية ضيقة الكمين ، فذهب يخرج يده من كمها فضاق ، فأخرج يده من أسفلها ، فصببت عليه فتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم مسح على خفيه   . انتهى . 
 [ ص: 198 ] ومن المعلوم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما لبس الجبة الرومية في غزوة تبوك  ، كما ثبت في الصحيح ، وهي بعد نزول المائدة وبعد فتح مكة  ، ثم ذكر الحديث في باب شرعية المسح على الخفين من المتن ، وعزاه إلى أحمد  وأبي داود  ، وفيه زيادة " قلت : يا رسول الله ، أنسيت ؟ قال : بل أنت نسيت ، بهذا أمرني ربي ، عز وجل   " قال في الشرح : الحديث إسناده صحيح . انتهى . أقول : لعله مما يستدل به من قالوا : إن قراءة وأرجلكم بالجر مراد بها مسح الخفين ، وسيأتي حديث المغيرة  بألفاظ أخرى . 
				
						
						
