( ياأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم ) روى غير واحد أن الآية نزلت في رجل هم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم أرسله قومه لذلك ، وكان بيده السيف ، وليس مع النبي صلى الله عليه وسلم سلاح ، وكان منفردا . وأقوى هذه الروايات ما صححه الحاكم من حديث جابر ، وهي أن الرجل [ ص: 229 ] من محارب ، واسمه غورث بن الحارث ( قال ) : . وفي غير هذه الرواية أن السيف الذي كان بيد الأعرابي كان سيف النبي صلى الله عليه وسلم علقه في شجرة وقت الراحة ، فأخذه الرجل ، وجعل يهزه ، ويهم بقتل النبي صلى الله عليه وسلم فيكبته الله تعالى . قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : من يمنعك ؟ قال : الله . فوقع السيف من يده ، فأخذه النبي صلى الله عليه وسلم وقال : من يمنعك ؟ قال : كن خير آخذ ، قال : ( تشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ؟ ) قال : أعاهدك ألا أقاتلك ، ولا أكون مع قوم يقاتلونك . فخلى سبيله ، فجاء إلى قومه وقال : جئتكم من عند خير الناس
وروى آخرون أنها نزلت في بني النضير ; إذ ذهب إليهم ومعه قصة النبي صلى الله عليه وسلم مع أبو بكر وعمر وعلي ، رضي الله عنهم ، يطلبون منهم الإعانة على دية قتل الرجلين الكلابيين ، اللذين قتلهما منصرفه من عمرو بن أمية الضمري بئر معونة ، وكان معهما أمان من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعلم به ، وقومهما محاربون ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم عاهد بني النضير على ألا يحاربوه ، وأن يعينوه على الديات ; فلما طلب منهم ذلك وهو بينهم أظهروا له القبول ، وقالوا اقعد حتى نجمع لك . وفي رواية : نعم يا أبا القاسم ، قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة ، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا . فلما جلس بجانب جدار دار لهم وجدوا أن الفرصة قد سنحت للغدر به ، وقال لهم حيي بن أخطب : لا ترونه أقرب منه الآن ، اطرحوا عليه حجارة فاقتلوه ، ولا ترون شرا أبدا ! فهموا أن يطرحوا عليه صخرة ، وفي رواية : رحى عظيمة ، وإنما اعتلوا بصنع الطعام ; ليكون لهم فيه وقت ينقلون الصخرة ، أو الرحى إلى سطح الدار ، ولا شك أنهم كانوا يريدون قتل من معه أيضا ، وقيل كان معهم عثمان وطلحة والزبير أيضا ، وقد أعلم وعبد الرحمن بن عوف جبريل النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فانطلق وتركهم ، ونزلت الآية في ذلك ، وليس المراد أنها نزلت يومئذ ، وإنما المراد أنها نزلت مذكرة بهذه القصة ; فإن السورة نزلت عام حجة الوداع ، وذلك بعد غزوةبني النضير التي كانت في أوائل السنة الرابعة ، وقيل قبل ذلك . وعلى هذا يجوز أن تكون الآية مذكرة بهذه الحادثة وبحادثة المحاربي وأمثالهما من وقائع الاعتداء التي كانت كثيرة حتى بعد قوة الإسلام بكثرة المسلمين ، دع ما كان يقع في أول الإسلام من إيذاء المشركين وعدوانهم ; فهو سبحانه يذكر المسلمين بذلك كله ، والمنة له جل جلاله في ذلك ليست قاصرة على من وقعت لهم تلك الوقائع من النبي ، صلى الله عليه ، والمؤمنين ، [ ص: 230 ] بل هي منة عامة ، يجب أن يشكرها له ، عز وجل ، كل مؤمن إلى يوم القيامة ; لأن حفظه لأولئك السلف الصالحين هو عين حفظه لهذا الدين القويم ، فالنبي صلى الله عليه وسلم قد بلغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، وأصحابه هم الذين تلقوها عنه بالقبول ، وأدوها لمن بعدهم بالقول والعمل .
ومن فوائد هذا التذكير للمتأخرين ترغيبهم في التأسي بسلفهم في القيام بما جاء به الدين من الحق والعدل والبر والإحسان واحتمال الجهد والصبر على المشاق في هذه السبيل ، وهي سبيل الله ، وهذا هو المعنى العام للجهاد في سبيل الله .