( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ) أي فبسبب نقضهم ميثاقنا الذي أخذناه عليهم ، وواثقناهم به ، ومنه الإيمان بمن نرسله إليهم من الرسل ونصرهم ، وتعزيرهم ، استحقوا لعنتنا والبعد من رحمتنا ; لأن نقض الميثاق قد دنس نفوسهم ، وأفسد فطرتهم ، وقسى قلوبهم حتى قتلوا الأنبياء بغير حق ، وافتروا على مريم وبهتوها ، وأهانوا ولدها الذي أرسله الله تعالى لهدايتهم ، وإصلاح ما فسد من أمرهم ، وحاولوا قتله ، وافتخروا بذلك بمجرد الشبهة ، فمعنى لعنهم وجعل قلوبهم قاسية أن نقص الميثاق ، وما يترتب عليه من المعاصي والكفر كان بحسب سنة الله تعالى في تأثير الأعمال في النفوس ، مبعدا لهم عن كل ما يستحقون به رحمة الله وفضله ، ومقسيا لقلوبهم حتى لم تعد تؤثر فيها حجة ولا موعظة ، فهذا معنى إسناد اللعنة وتقسية القلوب إليه تعالى ، وليس معناه ما يزعمه الجبرية من أنه شيء خلقه الله ابتداء ، وعاقبهم به ، ولم يكن مسببا عن أعمالهم الاختيارية التي هي علة لذلك ، ولا كما يفهمه بعض الجاهلين لسنن الله تعالى في الجزاء الإلهي ; إذ يظنون أنه من قبيل الجزاء الوضعي المرتب على مخالفة الشرائع والقوانين في الدنيا ، وقد بينا مرارا أنه ليس كذلك ، وإنما هو من قبيل الأمراض والآلام المرتبة على مخالفة قوانين الطب ، وهذا أمر معقول في نفسه مطابق للواقع ولحكمة التكليف ، وجامع بين النصوص ، ولو خلق الله القسوة في قلوبهم ابتداء فلم تكن أثرا لأعمالهم الاختيارية السيئة لاستحال أن يذمهم بها ، ويعاقبهم عليها . قرأ حمزة " قسية " بتشديد الياء على وزن " فعيلة " ، وهو أبلغ في الوصف من " قاسية " وهي قراءة الباقين ، ولأجل موافقة القراءتين كتبت الكلمة في المصحف الإمام بغير ألف ، وقيل : إن " قسية " بمعنى " رديئة فاسدة " ، من قولهم درهم قسي ، على وزن " شقي " : أي " فاسد مغشوش " ، وقد رد والكسائي هذا المعنى إلى القسوة بمعنى الصلابة ; لأن الذهب والفضة الخالصين فيهما لين ، فإذا غشا بإدخال بعض المعادن فيهما كالنحاس أفادهما ذلك قسوة وصلابة . الزمخشري