( وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا ياموسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا ياموسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون قال قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين ) . أقام الله تعالى الحجج القيمة على بني إسرائيل ، وأثبت لهم رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم حتى فيما أوحاه إليه بشأنهم وشأن كتبهم وأنبيائهم من البشارات وأخبار الغيب وتحريف الكتب ونسيان حظ منها ، ونحو ذلك من الآيات الدالة على صدقه وكون [ ص: 266 ] ما جاء به من عند الله تعالى هو من جنس ما جاء به أنبياؤهم ، إلا أنه أكمل منه على سنة الترقي في البشر ، وأيد ذلك بدحض شبهاتهم وإبطال دعاويهم ، وبيان مناشئ غرورهم ، ثم لما لم يزدهم ذلك كله إلا كفرا وعنادا بين الله تعالى في هذه الآيات واقعة من وقائعهم مع موسى عليه الصلاة والسلام ، الذي أخرجهم الله على يديه من الرق والعبودية واضطهاد المصريين لهم إلى الحرية والاستقلال وملك أمرهم ، وكونهم على هذا كله كانوا يخالفونه ويعاندونه ، حتى فيما يدعوهم إليه من العمل الذي تتم به النعمة عليهم في دنياهم التي هي أكبر همهم ; ليعلم الرسول بهذا أن مكابرة الحق ومعاندة الرسل خلق من أخلاقهم الموروثة عن سلفهم ، فيكون ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم ومزيد عرفان بطبائع الأمم وسنن الاجتماع البشري ، وبهذا يظهر حسن نظم الكلام ، ووجه اتصال لاحقه بسابقه ، قال عز وجل : ( وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا ) أي واذكر ، أيها الرسول ، لبني إسرائيل وسائر الناس الذين تبلغهم دعوة القرآن ; إذ قال موسى لقومه ، بعد أن أنقذهم من ظلم فرعون وقومه ، وأخرجهم من أرض العبودية : اذكروا نعمة الله عليكم بالشكر له والطاعة ; لأن ذلك يوجب المزيد ، وتركه يوجب المؤاخذة والعذاب الشديد ، ولفظ " نعمة " يفيد العموم بإضافته إلى اسم الله تعالى ، وقد بين لهم موسى مراده بهذا العموم بذكر ثلاثة أشياء كانت حاصلة بالفعل بعد نعمة إنقاذهم من المصريين ، التي هي بمعنى النفي والسلب . وهذه الأشياء الحاصلة المشهودة هي أعظم أركان النعم ومجامعها التي يندرج فيها ما لا يحصى من الجزئيات الدينية والدنيوية ، وهاك بيانها : ( الأول ) - وهو أشرفها - : جعل كثير من الأنبياء فيهم ، وهذا يصدق بوجود المبلغ لذلك ، ووجود أخيه هارون ومن كان قبلهما ، عليهم السلام ، وتشعر العبارة مع ذلك بأن النعمة أوسع ، وأن عدد هؤلاء الأنبياء كثير ، أو سيكون كثيرا ، بناء على أن المراد بالجعل بيان الشأن لا مجرد الحصول بالفعل في الزمنين الماضي والحال ، وقيل : كان عدد الأنبياء فيهم كثيرا في عهد موسى ، حتى حكى أن السبعين الذين اختارهم ابن جرير موسى ليصعدوا معه الجبل إذ يصعده لمناجاة الله تعالى ، صاروا كلهم أنبياء ، والمشهور من معنى النبوة عند أهل الكتاب الإخبار ببعض الأمور الغيبية التي تقع في المستقبل بوحي أو إلهام من الله عز وجل ، وكان جميع أنبياء بنى إسرائيل من بعد موسى مؤيدين للتوراة ، عاملين وحاكمين بها ، حتى المسيح ، عليهم السلام ، وللنصارى تحكم في إثبات النبوة ونفيها عمن شاءوا من أنبياء بني إسرائيل ، حتى إنهم لا يعدون سليمان بن داود نبيا ! ! بل حكيما ; أي فيلسوفا [ ص: 267 ] على أن كتبه هي أعلى كتبهم المقدسة علما وحكمة ; فهي أعلى من حكم الأناجيل التي عندهم ، وقد كان هذا مما ينتقده عامتهم على رؤساء كنيستهم ، حتى قال أحد الأذكياء اللبنانيين : إن الكنيسة لم تعترف بنبوة سليمان ; ليكون منتهى مبالغة المعجبين بحكمه وأمثاله من أهل الفهم أن يرفعوه إلى مرتبة النبوة ، فيبقى دونالمسيح ، وإن رؤساء الكنيسة كانوا يخشون أن يقول الناس : إنه أحق من المسيح بالألوهية إذا هم اعترفوا له بالنبوة ، أما علماء المسلمين الذين تكلموا في ، فقد فضلوا المفاضلة بين الأنبياء المسيح على سليمان ، فهو عندهم في المرتبة الرابعة بعد محمد وإبراهيم وموسى ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وقد تقدم القول في المفاضلة في أواخر تفسير سورة النساء .
( الثاني ) : جعلهم ملوكا ، لولا ما ورد في التفسير المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين لكانت هذه النعمة موضع اشتباه عند المتأخرين الضعفاء في فهم العربية ; لأن بنى إسرائيل لم يكن فيهم ملوك على عهد موسى ؛ وإنما كان أول ملوكهم بالمعنى العرفي لكلمة ملك وملوك شاول بن قيس ، ثم داود الذي جمع بين النبوة والملك ، وإن من يفهم العربية حق الفهم يجزم بأنه ليس المراد أنه جعل أولئك المخاطبين رؤساء للأمم والشعوب يسوسونها ويحكمون بينها ، ولا أنه جعل بعضهم ملوكا ; لأنه قال : ( وجعلكم ملوكا ) ولم يقل : وجعل فيكم ملوكا ، كما قال : ( جعل فيكم أنبياء ) فظاهر هذه العبارة أنهم كلهم صاروا ملوكا ، وإن أريد بـ " كل " المجموع لا الجميع ; أي إن معظم رجال الشعب صاروا ملوكا ، بعد أن كانوا كلهم عبيدا للقبط ، بل معنى الملك هنا الحر المالك لأمر نفسه وتدبير أمر أهله ، فهو تعظيم لنعمة الحرية والاستقلال بعد ذلك الرق والاستعباد ، يدل على ذلك التفسير المأثور ; ففي حديث مرفوعا عند أبي سعيد الخدري : " ابن أبي حاتم كانت بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم ودابة وامرأة كتب ملكا " ، وفي حديث : " زيد بن أسلم من كان له بيت وخادم فهو ملك " رواه أبو داود في مراسيله ، تفسيرا للآية بلفظ " زوجة ومسكن وخادم " ، وروى مثله عن ابن جرير وعن ابن عباس مجاهد وعن رواية أخرى ستأتي بنصها ، وقد صححوا سندها ، والمرفوع ضعيف السند ، والمعنى الجامع لهذه الأقوال أن المراد بالملك هنا : الاستقلال الذاتي ، والتمتع بنحو ما يتمتع به الملوك من الراحة والحرية في التصرف وسياسة البيوت ، وهو مجاز تستعمله العرب إلى اليوم في جميع ما عرفنا من بلادهم ، يقولون لمن كان مهنئا في معيشته ، مالكا لمسكنه ، مخدوما مع أهله ، فلان ملك ، أو ملك زمانه ; أي يعيش عيشة الملوك ، وترى مثل هذا الاستعمال المجازي في رؤيا ابن عباس يوحنا ، قال : ( 1 : 6 وجعلنا ملوكا وكهنة ) .
وذهب بعض المفسرين إلى أن المعنى أنه جعلهم ملوكا بالقوة والاستعداد بما آتاهم [ ص: 268 ] من الحرية والاستقلال وشريعة التوراة العادلة التي يرتقون بها في مراقي الاجتماع ، وهو بشارة بأنه سيكون منهم ملوك بالفعل ; لأن ما استعدت له الأمة من ذلك في مجموعها لا بد أن يظهر أثره بعد ذلك في بعض أفرادها ، وهذا المعنى لا يعارض ما قبله ، بل يجامعه ويتفق معه ، فإن تلك المعيشة المنزلية الراضية هي الأصل في الاستعداد لهذه العيشة الثانية ، عيشة الملك والسلطة ، فإن الشعوب التي يفسد فيها نظام المعيشة المنزلية لا تكون أمما عزيزة قوية ; فهي إذا كان لها ملك تضيعه ، فكيف تكون أهلا لتأسيس ملك جديد ؟ ! فليعتبر المسلمون بهذا ، ولينظروا أين هم من العيشة الأهلية التي وصفناها .
( الأمر الثالث ) : ; أي عالمي زمانهم وشعوبه التي كانت مستعبدة للملوك العتاة الطغاة ; كالقبط والبابليين ، روى إيتاؤهم ما لم يؤت أحد من العالمين الفريابي وابنا جرير والمنذر ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في شعب الإيمان ، عن في قوله : ( ابن عباس إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا ) قال : المرأة والخادم ( وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين ) قال : الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ ، وروى من طريق ابن جرير مجاهد عنه في الأخير أنه المن والسلوى ، وروى هو وعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد هذا المعنى مع زيادة الغمام الذي ظللهم في التيه ، وزاد بعضهم الحجر الذي انبجست منه العيون بعدد أسباطهم ، رواه ، وقد تقدم تفسير هذه الخصائص في سورة البقرة ، فيراجع في الجزء الأول من التفسير . ابن جرير