ويؤيد التعليل الذي بيناه أخيرا هذا النهي الذي عطف على الأمر بدخول الأرض المقدسة ، وهو ( ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ) على أحد الوجهين في تفسيره ، وهو : لا ترجعوا عما جئتكم به ، من التوحيد والعدل والهدى إلى الوثنية أو الفساد في الأرض بالظلم والبغي واتباع الهوى ; فيكون هذا الرجوع إلى الوراء انقلاب خسران تخسرون فيه هذه النعم ، ومنها الأرض المقدسة التي ستعطونها جزاء على شكر النعم التي تقدمتها ، فتعود الدولة فيها لأعدائكم ، وذلك أن شكر النعم مدعاة المزيد منها ، وكفرها مدعاة سلبها وزوالها ، والوجه الآخر في الارتداد على الأدبار النكوص عن دخولها ، والجبن عن قتال من فيها من الوثنيين ، وقد فرض الله عليهم قتالهم ، والخسران على هذا قيل هو [ ص: 272 ] خسران ثواب الجهاد ، وخيبة الأمل في امتلاك البلاد ، والذي أجزم به أن المراد بالخسران تحريم الأرض المقدسة على المخاطبين وحرمانهم من خيراتها التي ورد في بعض أوصافها أنها " تفيض لبنا وعسلا " ، وعقابهم بالتيه أربعين سنة ، ينقرض فيها المرتدون على أدبارهم ، كما سيأتي ، فإن هذا الخسران هو الذي وقع بالفعل ، وبينه الله في الكتاب ، فلا معدل عنه ، ولا يعارضه كون الله تعالى كتبها لهم ; فإن هذه الكتابة ليست لأولئك الأفراد بأعيانهم ، وإنما هي لشعبهم وأمتهم ، ومثل هذا الخطاب الذي يوجه إلى الأمم والأقوام معهود في عرف الناس ولغاتهم ، يسند إلى الحاضرين المخاطبين ما كان من أعمال سلفهم الغابرين ، ويبشرون أو يوعدون بما لا يكون إلا لخلفهم الآتين ، كبشارة النبي صلى الله عليه وسلم لقومه بأنهم سيفتحون القسطنطينية ، قبيل قيام الساعة . على أن الله حرمها على جمهور الذين خالفوا وعصوا أمر موسى بدخولها ، ولما دخلوها بعد التيه كان قد بقي من الذين خوطبوا بأنها كتبت لهم بقية . فقال بعض المفسرين : إن كونها كتبت لأولئك المخاطبين بأعيانهم يصدق بهؤلاء من باب إطلاق العام وإرادة الخاص ، ولكن الأسلوب الفصيح يأبى هذا التوجيه اللفظي كل الإباء ، وقال : إن المراد بالكتابة هنا الأمر ، فمعنى " السدي كتب الله لكم " أمركم بدخولها ، وهو بعيد أيضا ، والمتبادر أنه كتب لهم ذلك في الكتاب وما أوحاه إلى آبائهم ، ويؤيده الواقع ، ولولاه لكان المعنى كتب لكم ذلك في علمه ; أي أثبته بقضائه وقدره .