( قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ) اتفق رواة التفسير على أن الرجلين هما : يوشع بن نون ، وكالب بن يفنة ; وفاقا لرواية التوراة عند أهل الكتاب ; فهما [ ص: 276 ] اللذان كانا يحثان القوم على الطاعة ودخول أول بلد للجبارين ; ثقة بوعد الله وتأييده ، والظاهر أن قوله : ( يخافون ) معناه يخافون الله تعالى ، وقيل يخافون الجبارين ، ومعنى النعمة هنا نعمة الطاعة والتوفيق حتى في حال الخوف ، على القول بأنهما كانا من جملة الخائفين طبعا ( ادخلوا عليهم الباب ) أي باب المدينة ( فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ) بنصر الله وتأييده لكم إذا أطعتم أمره ، وصدقتم وعده ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) أي وعليكم ، بعد أن تعملوا ما يدخل في طاقتكم من طاعة ربكم ، أن تكلوا أمركم إليه وتثقوا به فيما لا يصل إليه كسبكم ، فإن التوكل إنما يكون بعد بذل الوسع في مراعاة السنة وامتثال الأمر ، إن كنتم مؤمنين بأن ما وعدكم ربكم على لسان نبيكم حق ، وأنه قادر على الوفاء لكم بوعده ، إذا أنتم قمتم بما يجب عليكم من طاعته وشكره والوفاء بميثاقه وعهده .
( قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) أي لم تنفع بني إسرائيل موعظة الرجلين ، بل أصروا على التمرد والعصيان ، وأكدوا لموسى بالقول بأنهم لا يدخلون تلك الأرض التي فيها الجبارون أبدا - أي مدة الزمن المستقبل - ما داموا فيها ; لأن دخولها يستلزم القتال والحرب ، وليسوا لذلك بأهل ، وقالوا لموسى ما معناه : إن كنت أخرجتنا من أرض مصر بأمر ربك ; لنسكن هذه الأرض التي وعد بها آباءنا ، وقد علمت أن هذا يتوقف على القتال وأننا لا نقاتل ، فاذهب أنت وربك الذي أمرك بذلك ، فقاتلا الجبارين ، واستأصلا شأفتهم ، أو اهزماهم وأخرجاهم منها ، إنا هاهنا منتظرون ومتوقفون ، أو قاعدون عن القتال ، أو غير مقاتلين ، فقد استعمل هذا اللفظ في هذا المعنى ; كقوله تعالى : ( وقيل اقعدوا مع القاعدين 9 : 46 ) وقوله : ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون ) ( 4 : 95 ) الآية . وقد حاول بعض المفسرين حمل هذا القول السمج الخارج من حدود الآداب على معنى مجازي يليق بأهل الإيمان ; ككون المراد بذهاب الرب إعانته ونصره ، وقال بعضهم : لا حاجة إلى مثل هذا مع أمثال هؤلاء القوم الذين عبدوا العجل ، وكان من فساد فطرتهم وجفاء طباعهم ما بينه الله تعالى في كتابه ، والتوراة التي في أيديهم تؤيد ذلك أشد التأييد ، تارة بالإجمال ، وتارة بأوسع التفصيل . والقرآن يبين صفوة الوقائع ، ومحل العبرة فيها ، لا ترجمة جميع الأقوال بحروفها ، وشرح الأعمال ببيان جزئياتها ، فما يقصه من أمور بني إسرائيل هو الواقع وروح ما صح من كتبهم ، أو تصحيح ما حرف منها ، وهذه العبارة منه تدل على منتهى التمرد ، والمبالغة في العصيان والإصرار عليه والجفاء والبعد عن الأدب ، فلا وجه لتأويلها بما ينافي ذلك .
( قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي ) هذا القول من موسى عليه السلام صورته خبر ، ومعناه إنشاء ، فهو من بث الحزن والشكوى إلى الله ، والاعتذار إليه ، والتنصل من [ ص: 277 ] فسق قومه عن أمره الذي يبلغه عن ربه ، ومعنى العبارة : إنني لا أملك أمر أحد أحمله على طاعتك إلا أمر نفسي وأمر أخي ، ولا أثق بغيرنا أن يطيعك في اليسر والعسر ، والمنشط والمكره . وهذا يدل على أنه لم يكن يوقن بثبات يوشع وكالب على ما كانا عليه من الرغبة والترغيب في الطاعة إذا أمر الله موسى بأن يدخل أرض الجبارين ، ويتصدى لقتالهم هو ومن يتبعه ، فإن الذي يجرؤ على القتال مع الجيش الكثير ، يجوز ألا يجرؤ عليه مع النفر القليل . وأما ثقته بأخيه فلعلمه اليقيني بأن الله تعالى أيده بمثل ما أيده به ، ولو لم يعلم هذا بإعلام الله ووحيه ، وما يجده من الوجدان الضروري في نفسه لكان بلاؤه معه في مقاومة فرعون وقومه ، ثم في سياسة بني إسرائيل معه ، وفي حال انصرافه لمناجاة ربه ما يكفي للثقة التامة ، فلفظ " أخي " معطوف على " نفسي " وجعله بعضهم معطوفا على الضمير في " إني " أي وأخي كذلك لا يملك إلا نفسه .