( ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون ) أي لم تغن عنهم بينات الرسل ، ولا هذبت نفوسهم ، بل كان كثير منهم بعد ذلك الذي ذكر من التشديد عليهم في أمر القتل ، ومن مجيء الرسل بالبينات ، يسرفون في الأرض بالقتل وسائر ضروب البغي . أكد إثبات وصف الإسراف لكثير منهم تأكيدا بعد تأكيد ; لأن تشديد الشريعة ، وتكرار بينات الرسل ، كانت تقتضي عدم ذلك أو ندوره . والحكم على الكثير دون جميع الأمة من دقة القرآن في الصدق وتحديد الحقائق ، وهذا الرسوخ في الإسراف لا يمكن أن يعم أفراد الأمة ، والناس يطلقون وصف الكثير على الجميع في الغالب . ; أي حد الحق والمصلحة ، ويعرف ذلك بالشرع في الأمور الشرعية ، وبالعقل والعرف في غير ذلك ، وفي القوم الذين ليس لهم شرع . وكل ما يتجاوز في الحد يفسد . والأصل في معنى الإسراف الإفساد ، فهو من السرقة ، وهي بالضم الدودة التي تأكل الشجر والخشب ، وإذا كان الإسراف في فعل الخير يجعله شرا ; كالنفقة الواجبة والمستحبة التي تذهب بالمال كله ، فتفسد على صاحبها أمر معاشه . فما بالك بالإسراف في الشر ، وهو المبالغة وتجاوز ما اعتاده الأشرار فيه ؟ وأما قوله تعالى في سورة والإسراف : مجاوزة الحد في العمل بني إسرائيل : ( فلا يسرف في القتل ) ( 17 : 33 ) فهو نهي لولي المقتول أن يتجاوز حد القصاص إلى قتل غير القاتل ، أو تعذيب القاتل والتمثيل به .
وأكبر العبر في الآية أن قصة ابني آدم أقدم قصة تدلنا على أن ، ولا يزال هو الذي يفسد على الناس أمر اجتماعهم ، من اجتماع العشيرة [ ص: 291 ] في الدار إلى اجتماع القبيلة إلى اجتماع الدولة . فترى الحاسد تثقل عليه نعمة الله على أخيه في النسب أو الجنس أو الدين ، وهو لم يتعرض لمثلها لينالها ، فيبغي على أخيه ، ولو بما فيه شقاؤه هو . وأكبر الموانع لارتقاء المسلمين الآن هو الحسد والعياذ بالله تعالى من أهله ، لعنة الله عليهم ; لأن الأمم لا ترتقي إلا بنهوض المصلحين بها ، وكلما قام فينا مصلح تصدى الحاسدون لإحباط عمله . الحسد كان مثار أول جناية في الشر
من قرأ الآية وفهم ما فيها من تعليل تحريم القتل بغير حق وكون هذا الحق لا يعدو القصاص ومنع الإفساد في الأرض ، يتوجه ذهنه لاستبانة العقاب الذي يؤخذ به المفسدون ، حتى لا يتجرأ غيرهم على مثل فعلهم ، فبين الله ذلك العقاب بقوله :