هذه ; فقال بعضهم هي للتخيير ، فللإمام أن يحكم على من شاء من المحاربين المفسدين عند التمكن منهم ، بما شاء منها ، وقال الجمهور : إنها لتفصيل أنواع العقاب لا للتخيير ، جعل الله لهذا الإفساد درجات من العقاب ; لأن إفسادهم متفاوت ; منه القتل ، ومنه السلب ، ومنه هتك الأعراض ، ومنه إهلاك الحرث والنسل ; أي قطع الشجر ، وقطع الزرع ، وقتل المواشي والدواب ، ومنهم من يجمع بين جريمتين أو أكثر من هذه المفاسد ، فليس الإمام مخيرا في معاقبة من شاء منهم بما شاء منها ، بل عليه أن يعاقب كلا بقدر جرمه ودرجة إفساده ، ثم اختلفوا في تقدير هذه العقوبات بقدر الجرائم اختلافا كثيرا ، وجاءوا فيه بفروع كثيرة ترجع إلى الرأي والاجتهاد في التقدير ومراعاة ما ورد من الحدود على بعض هذه الأعمال ، كقتل القاتل وقطع آخذ المال ; لأنه كالسارق ، والجمع بين القتل والصلب لمن جمع بين القتل والسلب ، والنفي لمن أخاف السبيل ولم يقتل ولا أخذ مالا ، وقد روي هذا عن أربع عقوبات للمحاربين المفسدين في الأرض ، اختلف علماء السلف في كيفية تنفيذها وبعض علماء التابعين ، وأنت ترى أن الآية لا تدل عليه ولا تنفيه ; فهو اجتهاد حسن في كيفية العمل بها ، ولكنه غير كاف ; لأن للمفسدين في الأرض بالقوة أعمالا أخرى أشرنا إلى أمهاتها آنفا ، فإذا قامت عصابة مسلحة من الأشقياء بخطف العذارى أو المحصنات لأجل الفجور بهن ، أو بخطف الأولاد لأجل بيعهم أو فديتهم ، فلا شك أنها تعد من المخربين المفسدين ، فما حكم الله فيهم ؟ إن الآية حددت لعقاب المفسدين بقوة السلاح والعصبية أربعة أنواع من العقوبة ، وتركت لأولي الأمر الاجتهاد في تقديرها بقدر جرائمهم ، فلا هي خيرت الإمام بأن يحكم بما شاء منها على من شاء بحسب هواه ، ولا هي جعلت لكل مفسدة عقوبة معينة منها ، والحكمة في عدم تعيين الآية وتفصيلها للفروع والجزئيات هي أن هذه المفاسد كثيرة [ ص: 300 ] وتختلف باختلاف الزمان والمكان ، وضررها يختلف كذلك ، والفروع تكثر فيها ، حتى إن تفصيلها لا يمكن إلا في صحف كثيرة ، ومن خصائص القرآن أنه كتاب هداية روحية ، ليس لأحكام المعاملات الدنيوية منه إلا الحظ القليل ; إذ وكل أكثرها إلى أولي الأمر من المؤمنين ، وبين بإيجازه المعجز الضروري منها بعبارة يؤخذ من كل آية منها ما يملأ عدة صحف ، كهذه الآية وآيات المواريث ، والقاعدة في الإسلام : أن ما لا نص فيه بخصوصه يستنبط أولو الأمر حكمه من النصوص والقواعد العامة في دفع المفاسد وحفظ المصالح . والعلماء المستقلون من أولي الأمر ، فلهذا بينوا ما وصل إليه اجتهادهم ; ليسهلوا على الحكام من أولي الأمر فهم النصوص ، ويمهدوا لهم طرق الاجتهاد ، ولهذا اختلفت الأقوال ، ولو كان مسلمو هذا العصر كمسلمي السلف لفعل أئمتهم كما كان يفعل ابن عباس في خلافته من جمع أولي الأمر ( أهل الحل والعقد من العلماء وكبراء الصحابة ) للتشاور في كل ما لا نص فيه ، ولا سنة متبعة ، ولاستشاروهم في تقدير هذه العقوبات بقدر تأثير المفاسد وضررها ، وأنفذوا ما يتقرر بعد الشورى في كل ما حدث من فروع هذه المفاسد . راجع تفسير ( عمر بن الخطاب أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) ( 4 : 59 ) ( ص146 - 180 ج5 ط الهيئة ) .
وعلم بهذا الذي قررناه أن كل قول قاله علماء السلف له وجه ، وإن رد بعضهم قول بعض ، فمن قال : إن الإمام مخير فوجهه ما يدل عليه العطف بأو ، لا يعني بالتخيير أن له الحكم بالهوى والشهوة ، بل بالاجتهاد ومراعاة ما تدرأ به المفسدة وتقوم المصلحة ، ولا ينافي ذلك المشاورة في الأمر ، كيف وهي القاعدة الأساسية للحكم ؟ ومن وضع كل عقوبة بإزاء عمل من أعمال المفسدين فإنما بين رأيه واجتهاده في الحكم الذي يدرأ المفسدة ، وتقوم به المصلحة ، كما يبينون فهمهم واجتهادهم في غير ذلك من المسائل ، ولا يوجبون ، بل لا يجيزون لأحد من حاكم أو غيره أن يتخذ فهمهم أو رأيهم دينا يتبع ، وإنما هو إعانة للباحث والناظر على العلم ، فإن المستقل في طلب العلم إذا نظر في مسألة لم يعرف لغيره رأيا فيها يكون مجال نظره أضيق من مجال من عرف أقوال الناس وآراءهم ، وكم من عالم مجتهد قال في مسألة قولا ثم رجع عنه بعد وقوفه على قول غيره من العلماء ; إما إلى رأيهم ، وإما إلى رأي جديد . وعلى هذه القاعدة كان مذهب قديم ومذهب جديد ، فلا يغرنك قول بعض العلماء المستقلين إن أكثر ما قالوه ليس له أصل من كتاب ولا سنة . للشافعي
إذا علمت هذا ، فهاك أشهر أقوال الفقهاء في المسألة ، قال صاحب ( المقنع ) من كتب الحنابلة في باب قطاع الطريق : وإذا قدر عليهم ; فمن كان منهم قد قتل من يكافئه ، وأخذ [ ص: 301 ] المال قتل حتما ، وصلب حتى يشتهر ، وقال أبو بكر ( من فقهائهم ) : " يصلب قدر ما يقع عليه اسم الصلب ، وعن أحمد أنه يقطع مع ذلك . وإن قتل من يكافئه ، فهل يقتل ؟ على روايتين " إلى آخر ما ذكره ، وهو مثل الذي عزوناه إلى مع تفصيل وذكر روايات مختلفة في المذهب ، وقال محشيه ما نصه : " قوله وإذا قدر عليه . . . إلخ . هذا هو المذهب . وروي نحوه عن ابن عباس ، وبه قال ابن عباس قتادة وأبو مجلز ، وحماد والليث ، وذهبت طائفة إلى أن الإمام مخير فيهم بين القتل والصلب والقطع والنفي ; لأن ( أو ) تقتضي التخيير ، وبه قال والشافعي سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والضحاك والنخعي وأبو الزناد وأبو ثور وداود . وقال مالك : إذا قطع الطريق فرآه الإمام جلدا ذا رأي قتله ، وإن كان جلدا لا رأي له قطعه ، ولم يعتبر فعله " انتهى . أي إن مالكا يعتبر حال قاطع الطريق في العقاب ، لا عمله وحده ، والجلد : القوي صاحب الثبات ، فإذا اجتمعت القوة مع الرأي والتدبير كان الفساد أقوى ، والعاقبة شرا . وذكر الشوكاني في نيل الأوطار أقوالا كثيرة للعلماء في ذلك ; منها أقوال أئمة الزيدية ، فليراجعها من شاء .
قال تعالى : ( ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) أي ذلك الذي ذكر من العقاب خزي لأولئك المحاربين المفسدين ; أي ذل وفضيحة لهم في الدنيا ; ليكونوا عبرة لغيرهم من المفسدين ، وقال : ( لهم خزي ) ولم يقل " خزي لهم " ; ليفيد أنه خاص بهم ، دون الأفراد الذين يعملون مثل عملهم من غير أن يكونوا محاربين ، ومغترين بالقوة والعصبية ، ثم إن عذابهم في الآخرة يكون عظيما بقدر تأثير إفسادهم في تدنيس أرواحهم وتدسية أنفسهم ، ويا له من تأثير ! .