[ ص: 307 ]   ( فصل في التوسل والوسيلة  عند عامة المتأخرين ) بينا معنى الوسيلة في الآية ، وما قاله رواة التفسير المأثور عن السلف فيها ، ولم يؤثر عن صحابي ولا تابعي ولا أحد من علماء السلف أو عامتهم أن الوسيلة إلى الله تعالى تبتغى بغير ما شرعه الله للناس من الإيمان والعمل ، ومنه الدعاء ، إلا كلمة رويت عن الإمام مالك  ، لم تصح عنه ، بل صح عنه ما ينافيها ، وقد حدث في القرون الوسطى التوسل بأشخاص الأنبياء والصالحين المتقين ; أي تسميتهم وسائل إلى الله تعالى ، والإقسام على الله بهم ، وطلب قضاء الحاجات ودفع الضر وجلب النفع منهم عند قبورهم أو في حال البعد عنها ، وشاع هذا وكثر حتى صار كثير من الناس يدعون أصحاب القبور في حاجاتهم إلى الله تعالى أو يدعونهم من دون الله تعالى ، و " الدعاء هو العبادة   " - كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - رواه أحمد   والبخاري  في الأدب المفرد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم عن  النعمان بن بشير  ، والله تعالى يقول : ( فلا تدعوا مع الله أحدا    ) ( 72 : 18 ) ويقول : ( إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم    ) ( 7 : 194 ) ويقول : ( والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير  إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبئك مثل خبير    ) ( 35 : 13 ، 14 ) لكن بعض المصنفين زعم أنهم يسمعون ويستجيبون للداعي ، والعوام يأخذون بمثل هذا القول المخالف لقول الله تعالى ؛ لعموم الجهل . ومن المشتغلين بالعلم من يتأول لهم بأن هذا من التوسل بهم ، وقد حقق شيخ الإسلام أحمد بن تيمية  الموضوع بجميع فروعه ، فكان ما كتبه في ذلك مصنفا حافلا أطلق عليه اسم ( قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ) وقد طبعناه مرتين ، ومما جاء فيه قوله بعد بيان معنى الوسيلة في القرآن والحديث بنحو ما تقدم : 
" وأما التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم والتوجه به  في كلام الصحابة ، فيريدون به التوسل بدعائه وشفاعته ، والتوسل به في عرف كثير من المتأخرين ، يراد به الإقسام به والسؤال به ، كما يقسمون بغيره من الأنبياء والصالحين ومن يعتقدون فيه الصلاح . 
" وحينئذ فلفظ التوسل به يراد به معنيان صحيحان باتفاق المسلمين ، ويراد به معنى ثالث لم ترد به سنة ، فأما المعنيان الأولان الصحيحان باتفاق العلماء فأحدهما هو أصل الإيمان والإسلام ، وهو التوسل بالإيمان به وبطاعته ، والثاني دعاؤه وشفاعته ، كما تقدم ، فهذان جائزان بإجماع المسلمين ، ومن هذا قول  عمر بن الخطاب    : " اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا   " ؛ أي بدعائه وشفاعته ، وقوله تعالى : ( وابتغوا إليه الوسيلة    ) أي القربة إليه بطاعته ، وطاعة رسوله طاعته ، قال تعالى :   [ ص: 308 ]   ( من يطع الرسول فقد أطاع الله    ) ( 4 : 80 ) . فهذا التوسل الأول هو أصل الدين ، وهذا لا ينكره أحد من المسلمين ، وأما التوسل بدعائه وشفاعته ، كما قال عمر  ، فإنه توسل بدعائه لا بذاته ، ولهذا عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بعمه العباس  ، ولو كان التوسل هو بذاته لكان هذا أولى من التوسل بالعباس  ، فلما عدلوا عن التوسل به إلى التوسل بالعباس  علم أن ما يفعل في حياته قد تعذر بموته ، بخلاف التوسل الذي هو الإيمان به والطاعة له ; فإنه مشروع دائما . 
" فلفظ التوسل يراد به ثلاثة معان    ( أحدها ) : التوسل بطاعته ، فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به ( والثاني ) : التوسل بدعائه وشفاعته ، وهذا كان في حياته ويكون يوم القيامة ، يتوسلون بشفاعته ( والثالث ) : التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته . فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه ، لا في حياته ولا بعد مماته ، لا عند قبره ، ولا غير قبره ، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم ، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة ; مرفوعة وموقوفة ، أو عمن ليس قوله حجة ، كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى . 
" وهذا هو الذي قال أبو حنيفة  وأصحابه أنه لا يجوز ، ونهوا عنه ; حيث قالوا : لا يسأل بمخلوق ، ولا يقول أحد : أسألك بحق أنبيائك . قال  أبو الحسن القدوري  في كتابه الكبير في الفقه المسمى بشرح الكرخي  في باب الكراهة : وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة  ، قال  بشر بن الوليد    : حدثنا أبو يوسف  قال : قال أبو حنيفة    : لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به ، وأكره أن يقول بمعاقد العز من عرشك ، أو بحق خلقك . وهو قول أبي يوسف  ، قال أبو يوسف    : بمعقد العز من عرشه ، هو الله ، فلا أكره هذا ، وأكره أن يقول بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك ، وبحق البيت الحرام ، والمشعر الحرام ، قال القدوري    : المسألة بحقه لا تجوز ; لأنه لا حق للخلق على الخالق ; فلا تجوز وفاقا . 
" وهذا الذي قاله أبو حنيفة  وأصحابه من أن الله لا يسأل بمخلوق  ، له معنيان ( أحدهما ) : هو موافق لسائر الأئمة الذين يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق ، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق ، فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق أولى وأحرى ، وهذا بخلاف إقسامه ، سبحانه ، بمخلوقاته ; كالليل إذا يغشى ، والنهار إذا تجلى ، والشمس وضحاها ، والنازعات غرقا ، والصافات صفا ، فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن من ذكر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته ما يحسن معه إقسامه ، بخلاف المخلوق فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها ، كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من حلف بغير الله فقد أشرك   " . وقد   [ ص: 309 ] صححه الترمذي  وغيره ، وفي لفظ " فقد كفر " ، وقد صححه الحاكم  ، وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : " من كان حالفا فليحلف بالله   " ، وقال : " لا تحلفوا بآبائكم فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم   " ، وفي الصحيحين عنه أنه قال : " من حلف باللات والعزى فليقل : لا إله إلا الله   " . وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة ، أو بما يعتقد هو حرمته    ; كالعرش والكرسي والكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم ، والملائكة والصالحين ، والملوك وسيوف المجاهدين ، وقرب الأنبياء والصالحين ، وإيمان السدق وسراويل الفتوة ، وغير ذلك - لا ينعقد يمينه ، ولا كفارة في الحلف بذلك . 
" والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور ، وهو مذهب أبي حنيفة  ، وأحد القولين في مذهب  الشافعي  وأحمد  ، وقد حكي إجماع الصحابة على ذلك ، وقيل : هي مكروهة كراهة تنزيه ، والأول أصح ، حتى قال  عبد الله بن مسعود  ،  وعبد الله بن عباس  ، وعبد الله بن عمرو    : لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغير الله صادقا ، وذلك لأن الحلف بغير الله شرك ، والشرك أعظم من الكذب ، وإنما نعرف النزاع في الحلف بالأنبياء ، فعن أحمد  في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم  روايتان : ( إحداهما ) لا ينعقد اليمين به كقول الجمهور : مالك  وأبي حنيفة   والشافعي    . 
( والثانية ) ينعقد اليمين به ، واختار ذلك طائفة من أصحابه كالقاضي وأتباعه ، وابن المنذر  وافق هؤلاء ، وقصر أكثر هؤلاء النزاع في ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، وعدى ابن عقيل  هذا الحكم إلى سائر الأنبياء . وإيجاب الكفارة بالحلف بمخلوق وإن كان نبيا قول ضعيف في الغاية ، مخالف للأصول والنصوص ، فالإقسام به على الله والسؤال به بمعنى الإقسام ، هو من هذا الجنس . 
" والذي قاله أبو حنيفة  وأصحابه وغيرهم من العلماء من أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق ، لا بحق الأنبياء ، ولا غير ذلك ، يتضمن شيئين كما تقدم . 
( أحدهما ) : الإقسام على الله سبحانه وتعالى به ، وهذا منهي عنه عند جماهير العلماء كما تقدم ، كما ينهى أن يقسم على الله بالكعبة  والمشاعر باتفاق العلماء . 
( والثاني ) السؤال به ، فهذا يجوزه طائفة من الناس ، ونقل في ذلك آثار عن بعض السلف ، وهو موجود في دعاء كثير من الناس ، لكن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، كله ضعيف ، بل موضوع ، وليس عنه حديث ثابت قد يظن أن لهم فيه حجة إلا حديث الأعمى الذي علمه أن يقول : " أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد  نبي الرحمة " . 
" وحديث الأعمى لا حجة لهم فيه ; فإنه صريح في أنه إنما توسل بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم   [ ص: 310 ] وشفاعته ، وهو طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء ، وقد أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول : " اللهم شفعه في   " ولهذا رد الله عليه بصره لما دعا له النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك مما يعد من آيات النبي صلى الله عليه وسلم . ولو توسل غيره من العميان الذين لم يدع لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالسؤال به لم يكن حالهم كحاله . 
" ودعاء أمير المؤمنين  عمر بن الخطاب  في الاستسقاء ، المشهور بين المهاجرين  والأنصار  ، وقوله : " اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا   " يدل على أن التوسل المشروع  عندهم هو التوسل بدعائه وشفاعته ، لا السؤال بذاته ; إذ لو كان هذا مشروعا لم يعدل عمر  والمهاجرون  والأنصار  عن السؤال بالرسول إلى السؤال بالعباس  ، وساغ النزاع في السؤال بالأنبياء والصالحين دون الإقسام بهم ; لأن بين السؤال والإقسام فرقا ; فإن السائل متضرع ذليل يسأل بسبب يناسب الإجابة ، والمقسم أعلى من هذا ، فإنه طالب مؤكد طلبه بالقسم ، والمقسم لا يقسم إلا على من يرى أنه يبر قسمه ، فإبرار القسم خاص ببعض العباد ، وأما إجابة السائلين فعام ، فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم ، وإن كان كافرا ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من داع يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث ; إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخر له من الخير مثلها ، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها ، قالوا : يا رسول الله ، إذن نكثر ، قال : الله أكثر   " ( ثم قال في موضع آخر ) . 
" وهذا التوسل بالأنبياء بمعنى السؤال بهم ، وهو الذي قال أبو حنيفة  وأصحابه وغيرهم أنه لا يجوز . ليس في المعروف من مذهب مالك  ما يناقض ذلك ، فضلا عن أن يجعل هذا من مسائل السب ، فمن نقل عن مذهب مالك  أنه جوز التوسل به ، بمعنى الإقسام به أو السؤال به ، فليس معه في ذلك نقل عن مالك  وأصحابه ، فضلا عن أن يقول مالك  إن هذا سب للرسول أو تنقص به ، بل المعروف عن مالك  أنه كره للداعي أن يقول : يا سيدي سيدي ! وقال : قل كما قالت الأنبياء : " يا رب ، يا رب ، يا كريم " ، وكره أيضا أن يقول : يا حنان ، يا منان ! فإنه ليس بمأثور عنه . فإذا كان مالك  يكره مثل هذا الدعاء ; إذ لم يكن مشروعا عنده أن يسأل الله بمخلوق ، نبيا كان أو غيره ، وهو يعلم أن الصحابة لما أجدبوا عام الرمادة لم يسألوا الله بمخلوق ، لا نبي ولا غيره ، بل قال عمر    : " اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا   " ، وكذلك ثبت في الصحيح عن  ابن عمر  ، وأنس  وغيرهما أنهم كانوا إذا أجدبوا إنما يتوسلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم واستسقائه ،   [ ص: 311 ] لم ينقل عن أحد منهم أنه كان في حياته صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى بمخلوق ، لا به ولا بغيره ، لا في الاستسقاء ، ولا غيره . وحديث الأعمى سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى ، فلو كان السؤال به معروفا عند الصحابة لقالوا لعمر    : إن السؤال والتوسل به أولى من السؤال والتوسل بالعباس  ، فلم نعدل عن الأمر المشروع الذي كنا نفعله في حياته ، وهو التوسل بأفضل الخلق ، إلى أن نتوسل ببعض أقاربه ؟ وفي ذلك ترك السنة المشروعة ، وعدول عن الأفضل ، وسؤال الله تعالى بأضعف السببين مع القدرة على أعلاهما ، ونحن مضطرون غاية الاضطرار في عام الرمادة الذي يضرب به المثل في الجدب ، والذي فعله عمر  فعل مثله معاوية بحضرة من معه من الصحابة والتابعين ، فتوسلوا  بيزيد بن الأسود الجرشي  ، كما توسل عمر  بالعباس    . 
" وكذلك ذكر الفقهاء من أصحاب  الشافعي  وأحمد  ، وغيرهم أنه يتوسل في الاستسقاء بدعاء أهل الخير والصلاح  ، قالوا : وإن كان من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أفضل ، اقتداء بعمر  ، ولم يقل أحد من أهل العلم أنه يسأل الله تعالى في ذلك بمخلوق ; لا بنبي ولا بغير نبي . 
" وكذلك من نقل عن مالك  أنه جوز سؤال الرسول أو غيره بعد موتهم  ، أو نقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين غير مالك ;  كالشافعي  وأحمد  وغيرهما - فقد كذب عليهم ، ولكن بعض الجهال ينقل هذا ، ويستند إلى حكاية مكذوبة عن مالك  ، ولو كانت صحيحة لم يكن التوسل الذي فيها هو هذا ، بل هو التوسل بشفاعته يوم القيامة ، ولكن من الناس من يحرف نقلها ، وأصلها ضعيف كما سنبينه إن شاء الله تعالى " انتهى المراد منه . ومن أراد أن يحيط بهذه المسألة علما تفصيليا فليقرأ كتاب ( قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ) كله . 
وأما القول الجملي الجامع فهو أن الوسيلة  ما تتقرب به إلى الله تعالى وترجو أن تصل به إلى مرضاته ، وهو ما شرعه لك لتزكية نفسك ؛ إذ جعل مدار الفلاح على تزكيتها . والتوسل هو ابتغاء الوسيلة ، المأمور به هنا ; أي العمل بالمشروع لتزكية النفس ، وقد دل كتاب الله في جملته وتفصيله على أن مدار النجاة والفلاح على الإيمان والعمل الصالح ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى  وأن سعيه سوف يرى  ثم يجزاه الجزاء الأوفى    ) ( 53 : 39 - 41 ) ( لتجزى كل نفس بما تسعى    ) ( 20 : 15 ) ( هل تجزون إلا ما كنتم تعملون    ) ( 27 : 90 ) . نعم ، دلت السنة على أن دعاء المؤمن لغيره قد ينفعه ، لكن ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا الله وسأله ألا يجعل بأس أمته بينها فلم يعطه ذلك ، وثبت أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصا على إيمان عمه أبي طالب  ، وأن الله أنزل عليه في ذلك   [ ص: 312 ]   ( إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء    ) ( 28 : 56 ) وثبت أيضا أن لكل نبي مرسل دعوة واحدة مستجابة قطعا ، فما عداها بين الرجاء والخوف ; ولذلك خبأ صلى الله عليه وسلم دعوته ليشفع بها يوم القيامة ، فتعلم بأمثال هذه الأحاديث الصحيحة التي أشرنا إليها ، والآيات التي ذكرنا بعضها ، أن دعاء غيرك لك لا يطرد نفعه مهما كان الداعي صالحا ، فهل يكون شخص غيرك وسيلة وقربة لك إلى الله ، وإن لم يدع لك ؟ هذا شيء لا يدل عليه كتاب ولا سنة ولا عقل إن جاز أن يحكم العقل في قربات الشرع . فالعمدة في تقرب الإنسان إلى الله وابتغاء مرضاته وحسن جزائه هو إيمانه وعمله لنفسه ، فإذا أنت لم تعمل لنفسك ما شرعه الله لك وجعله سبب فلاحك ، ولم يدع لك غيرك بذلك ؛ فكيف تكون قد ابتغيت إلى الله الوسيلة ؟ وهل تسميتك بعض عباد الله المكرمين وسيلة ؟ أو طلبك منه بعد موته أن يشفع لك - أي يدعو لك - يعد امتثالا منك لأمر الله تعالى ( وابتغوا إليه الوسيلة    ) ؟ كلا ! إن الطلب من الميت  غير مشروع . وإذا فرض أنه مشروع ومسموع ، فلا يمكن أن يعلم هل كان مقبولا أم غير مقبول ! فإن ذلك من أمر الآخرة الغيبي ، " والأمر يومئذ لله " وحده ، ومنه أمر الشفاعة ، فهي لا تنال بالسؤال هنا ، وإنما تفوض إليه تعالى ( قل لله الشفاعة جميعا    ) ( 39 : 44 ) ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه    ) ( 2 : 255 ) ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون    ) ( 21 : 28 ) . فسنة الفطرة في الدنيا أن الإنسان لا يشبع إذا أكل عنده والده أو أستاذه أو أحد الصالحين ، ولا يشفى من مرضه إذا ترك الدواء وشربه غيره عنه ، ولا تؤثر في نفسه أو تظهر في أعماله أخلاق غيره ، فإذا كان النبي أو الولي الذي يتكل عليه جوادا سخيا شجاعا أمينا ، لا يبذل هو المال بذلك السخاء ، ولا النفس بتلك الشجاعة ، ولا يؤدي الحقوق إلى أهلها بتلك الأمانة ; لأن أعماله تصدر عن أخلاقه ، لا عن أخلاق الرسول أو الولي الذي يتكل عليه ، فإذا كان من سنة الفطرة في الدنيا ألا تعيش بأخلاق غيرك ، ولا بعلمه وعمله ، وهي دار الكسب والتعاون ، فكيف ينفعك إيمان غيرك وصلاحه ( يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله    ) ( 82 : 19 ) ؟ 
				
						
						
