( ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء والله على كل شيء قدير ) جعل الله تعالى هذه الآية ذيلا لهذا السياق بين فيه ما ينبغي أن يحضر القلوب بعد تلك العبر والأحكام ، فقال ما حاصل المراد منه : ألم تعلم أيها السامع لهذا الخطاب أن الله تعالى له ملك السماوات والأرض ، يدبر الأمر فيهما بالحكمة والعدل ، والرحمة والفضل ، فكان من متعلقات اسمه العزيز الحكيم أن وضع هذا العقاب لكل من يسرق ما يعد به سارقا من ذكر أو أنثى ، كما وضع ذلك العقاب للمحاربين المفسدين ، ومن مقتضى اسمه الغفور الرحيم أن يغفر لمن تاب من هؤلاء وهؤلاء ويرحمه إذا صدق في التوبة وأصلح عمله ; فهو بمقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلى يعذب من يشاء تعذيبه من الجناة ؛ تربية له وتأمينا لعباده من شره ، ويرحم من يشاء من التائبين والمصلحين برحمته وفضله ؛ ترغيبا لعباده في تزكية أنفسهم ، وإصلاح ذات بينهم ، وهو على كل شيء من التعذيب والرحمة قدير ، لا يعجزه شيء في تدبير ملكه .
يجوز أن يكون الخطاب لكل من يسمع القرآن أو يقرؤه ، ويجوز أن يكون موجها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، والاستفهام فيه للتقرير ; أي إنك تعلم هذا فتذكره ، وذكر به . وجعله لأهل الكتاب الذين كانوا في ابن جرير المدينة وجوارها ، ومن على شاكلتهم الذين قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ; لأن السياق الذي انتهى ببيان حد السرقة كان في محاجتهم ، ومنها إبطال دعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، بأنهم بشر من جملة خلقه ، وأنه هو رب العباد ، ومالكهم المتصرف في أمرهم بالعدل والحكمة ، يغفر لمن يشاء ، ويعذب من يشاء كما تقدم [ ص: 317 ] فكأن يرى أن ما ذكر من وضع الله الحدود والعقوبات في الدنيا ، وبيان ما أعده من الخزي والعذاب للعصاة في الآخرة ، ينتظم في سلك الدلائل على إبطال دعوى قولهم إنهم أبناء الله وأحباؤه ، وإثبات كونهم بشرا من جملة خلقه ، يعذب من شاء منهم بالشرع وبالفعل كما يعذب غيرهم ، كما يرحم من يشاء . وتشهد بذلك شريعتهم ذات العقوبات القاسية ، وما وقع عليهم ، أفرادا وجماعات ، من عذاب الدنيا بالحرب والسبي والأمراض . ابن جرير
وقد تقدم هنا ذكر العذاب على ذكر الرحمة ، خلافا لما تكرر في القرآن حتى في مثل هذا التركيب من تقديم الرحمة أو المغفرة على العذاب ، ومنه الآية التي رد الله فيها على أهل الكتاب زعمهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ; إذ قال : ( بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ) ( 5 : 18 ) وحكمة هذا التقديم هنا ترتيب الآية على ما قبلها من بيان عقاب السارق أولا ، وذكر توبته ثانيا . فهي لا تنافي كون الرحمة المطلقة سابقة ومقدمة على العذاب المطلق .
واستدل الرازي وأمثاله بالآية على مذهب الأشاعرة القائلين بأنه يحسن من الله تعالى أن يعذب التائبين المصلحين والنبيين والصديقين ، ولو بتخليدهم في النار ، ويرحم المفسدين الظالمين ، ولو بتخليدهم في الجنة . ووجه الدلالة عندهم أنه تعالى ناط التعذيب والرحمة بالمشيئة ، ورتبه على كونه مالك الملك ، والمالك يتصرف في ملكه كما يشاء ، وما حسن لهم هذا القول واستنباط مثل هذا الدليل له إلا توجه ذكائهم وفهمهم إلى الرد على من نقلوا عنهم من المعتزلة ; أنه ، فإن كان قد قال هذا القول بنصه أحد فهو مخطئ وقليل الأدب ; لأنه يوهم أن هنالك سلطانا فوق سلطان الله ، سبحانه ، يوجب عليه وإن كان لا يريد ذلك ، ولكن الأشاعرة لا يستطيعون أن ينكروا ولا أن يتأولوا ما ثبت في الكتاب والسنة من أن الله تعالى يوجب على نفسه ما يشاء ، فلا يكون ذلك نافيا لكونه صاحب الملك والتدبير ، ولا لتقييد مشيئته بسلطة سواه ، ولا هم ينكرون أن مشيئته لا تكون إلا على حسب علمه وحكمته ، وأنه لا يمكن أن تكون معطلة لصفة من صفاته ، فإذا لا وجه للقول بأن مقتضى الملك أن يكون كل عمل يعمله المالك حسنا من حيث إنه المالك ; إذ الأمر في الشرع والعقل والعرف ليس كذلك ، فالذي يملك عدة عبيد ، فيظلم المحسن منهم بالضرب والإهانة بغير ذنب منه ، ويحسن إلى الفاسق المسيء المفسد في داره وملكه ، يعد ظالما مذموما شرعا وعقلا ، ولغة وعرفا ، وأما كون يجب عليه تعالى أن يفعل ما هو الأصلح لعباده ، فليس سببه أنه المالك ، وكون المالك يحسن منه كل تصرف في ملكه من حيث إنه المالك ، بل لأنه تعالى منزه عن الظلم والنقص ، متصف بالحكمة والعدل ، والرحمة والفضل ، فتقديسه وتنزيهه وكماله يتجلى في أسمائه الحسنى كلها لا في اسم الملك والمالك والمريد فحسب . كل ما يفعله الله تعالى فهو حق وحسن
[ ص: 318 ] وقد كانت العرب - بدوها وحضرها - تفهم من وضع أسماء الله تعالى في الآيات بحسب المناسبة ما لا يفهمه أمثال الرازي على إمامته في العلوم والفنون العربية ، واطلاعه على ما نقل عنهم في هذا الباب . ومن ذلك ما نقله عن في تفسير آية السرقة ، قال : " قال الأصمعي : كنت أقرأ سورة المائدة ومعي أعرابي ، فقرأت هذه الآية ; فقلت : " والله غفور رحيم " سهوا ، فقال الأعرابي : كلام من هذا ؟ فقلت : كلام الله ، قال : أعد ، فأعدت : " والله غفور رحيم " ، ثم تنبهت ، فقلت : ( والله عزيز حكيم ) فقال : الآن أصبت ، فقلت : كيف عرفت ؟ قال : يا هذا ( عزيز حكيم ) فأمر بالقطع ، فلو غفر ورحم لما أمر بالقطع . انتهى . فقد فهم الأعرابي الأمي أن مقتضى العزة والحكمة غير مقتضى المغفرة والرحمة ، وأن الله تعالى يضع كل اسم موضعه من كتابه ; ليدل على متعلقه في خلقه ، ولم يتأمل الأصمعي الرازي في كلام الأعرابي من هذا الوجه ، بل من وجه بلاغة المناسبات فقط . وسبحان من لا يغفل ولا يذهل ، ولا يضل ولا ينسى .