( أفحكم الجاهلية يبغون ) قرأ الجمهور " يبغون " بفعل الغيبة ; لأنه حكاية عن اليهود ، وقرأه ابن عامر " تبغون " على الالتفات لمخاطبتهم . والاستفهام للإنكار والتعجيب المتضمن للتوبيخ ; أي أيتولون عن حكمك بالحق فيبغون حكم الجاهلية المبني على الهوى ، وترجيح القوي على الضعيف ؟ روي أن هذا نزل في خصومة مما كان بين بني النضير وبني قريظة من جعل دية القريظي ضعفي دية النضيري لمكان القوة والضعف ( ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) أي لا أحد أحسن حكما من حكم الله تعالى لقوم يوقنون بدينه ، ويذعنون لشرعه ; لأن هذا الحكم يجمع الحسنيين ؛ منتهى العدل والتزام الحق من الحاكم ، ومنتهى القبول والإذعان من المحكوم له والمحكوم عليه ، وهذا مما تفضل به الشريعة الإلهية القوانين البشرية ، وقيل : إن " اللام " هنا بمعنى " عند " أو للبيان ; أي إن حكمه تعالى أحسن الأحكام عند الموقنين ، وفي نظرهم ، وإن جهل ذلك غيرهم . ومضمون الآية أن مما ينبغي التعجب منه من منكراتهم أنهم يطلبون حكم الجاهلية الجائر ، ويؤثرونه على حكم الله العادل ، والحال أن حكمه تعالى أحسن الأحكام لأهل الإيمان والإسلام ; لأن حكمه هو العدل ، الذي يستقيم به أمر الخلق ، وأما حكم الجاهلية فهو تفضيل القوي على الضعيف ، الذي يمكن الظالمين الأقوياء من استذلال أو استئصال الضعفاء ، وهو شر الأحكام المخرب للعمران ، المفسد للنظام .
ومن العبرة في الآيات أن يوجد بين المسلمين الجغرافيين في هذا العصر من هم أشد فسادا في دينهم وأخلاقهم من أولئك الذين نزلت فيهم هذه الآيات ، ومن ذلك أنهم يرغبون عن حكم الله إلى حكم غيره ، ويرون أن استقلال البشر بوضع الشرائع خير من شرع الله تعالى ، على أنهم لا يعرفون أصول شرع الله ولا قواعده ، بل يظنون أنه محصور في هذه الكتب الفقهية التي أكثر ما فيها من آراء أفراد من المجتهدين والمقلدين ، فهم ينتقدون كثيرا منها بعدم موافقتها لمصالح الناس تارة ، ولأهوائهم تارة أخرى ، يحتجون بضرب من الجهل على ضرب آخر .