( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم ) اتفق رواة التفسير المأثور على نزول الآية في المنافقين ; فهم الذين في قلوبهم مرض ; أي إيمانهم معتل غير صحيح ; إذ لم يصلوا فيه إلى مستقر اليقين ، وكان عبد الله بن أبي - زعيم المنافقين - ذا ضلع مع يهود بني قينقاع ، وكان غيره من المنافقين يمتون إلى اليهود بالولاء والعهود ، ويسارعون في هذه السبيل التي سلكوها . كلما سنحت لهم فرصة لتوثيق ولائهم وتأكيده ابتدروها ، فهم يسارعون في أعمال موالاتهم مسارعة الداخل في الشيء ، الثابت عليه ، الراغب فيما يزيده تمكنا وثباتا ; ولهذا قال : ( يسارعون فيهم ) ولم يقل يسارعون إليهم ، فما عذر هؤلاء الذين يرددونه في أنفسهم ويقولونه عند الحاجة بألسنتهم ( يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ) أي نخشى أن تقع بنا مصيبة كبيرة مما يدور به الزمان ، أو من المصائب والدواهي التي تحيط بالمرء إحاطة الدائرة بما فيها . فنحتاج إلى نصرتهم لنا ، فنحن نتخذ لنا يدا عندهم [ ص: 357 ] في السراء ؛ ننتفع بها إذا مست الضراء . والمراد أنهم يخشون أن تدول الدولة لليهود أو المشركين على المؤمنين ، وكان اليهود عونا للمشركين على المؤمنين كما ظهر في وقعة بدر والأحزاب ، فيحل بهم ما يحل بالمؤمنين من النقمة . ذلك بأنهم غير موقنين بوعد الله بنصر رسوله ، وإظهار دينه على الدين كله ; لأنهم في شك من أمر نبوته ، لم يوقنوا بصدقها ولا بكذبها ، فهم يريدون أن ينتفعوا منها بإظهارهم الإيمان بها ، وأن يتخذوا لهم يدا عليها لأعدائها ; ليكونوا معهم إذا دالت الدولة لهم ، وهكذا شأن المنافقين في كل زمان ومكان ، وهو الذي جعل كثيرا من وزراء بعض الدول منذ قرن أو قرنين ما بين روسي وإنكليزي وألماني في سياسته ، كل منهم يتخذ له يدا عند دولة قوية يلجأ إليها إذا أصابته دائرة ، حتى تغلغل نفوذ هذه الدول في أحشاء هذه الدولة ، فأضعفن استقلالها في بلادها ، ويخشى ما هو أكبر من ذلك ، من خطر نفوذهن فيها ، وحتى صار بعض رجالها الصادقين لها يرون أنفسهم مضطرين إلى الاستعانة بنفوذ بعض هذه الدول على بعض ، وأما الذين استعمر الأجانب بلادهم بأي صورة من صور الاستعمار ، وأي اسم من أسمائه ، فأمر منافقيهم أظهر ، يتقربون إلى الأجانب بما يضر أمتهم ، حتى فيما لم يكلفوهم إياه ، ويسمون هذا تأمينا لمستقبلهم ، واحتياطا لمعيشتهم ، ولو التزموا الصدق في أمرهم كله ، فلم يلقوا أمتهم بوجه والأجانب بوجه لكان خيرا لهم وأقرب إلى الجمع بين مصلحة البلاد ومداراة الأجانب ، ولكنه النفاق يخدع صاحبه بما يظن صاحبه أنه يخدع به غيره ويسلك سبيل الحزم لنفسه ، وهو الذي يحمل بعض المنافقين الخائنين على نهب مال أمتهم ودولتهم ، وإيداعه في مصارف أوربة لأجل التمتع به ، إذا دارت الدائرة على دولتهم .
قال الله تعالى ردا على منافقي عصر التنزيل : ( فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ) أي فالرجاء بفضل الله تعالى وصدقه ما وعد به رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بالفتح والفصل بين المؤمنين ومن يعاديهم من اليهود والنصارى ، أو بأمر من عنده في هؤلاء المنافقين ; كفضيحتهم أو الإيقاع بهم ، فيصبحوا نادمين على ما كتموه وأضمروه في أنفسهم من اتخاذ الأولياء على المؤمنين ، وتوقع الدائرة عليهم ، فالفتح في اللغة : القضاء والفصل في الشيء ، وهو يصدق بفتح البلاد وبغير ذلك ، ومنه قوله تعالى حكاية : ( ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق ) ( 7 : 89 ) وقوله : ( ويقولون متى هذا الفتح ) ( 32 : 28 ) وقيل : المراد فتح مكة ، الذي كان به ظهور الإسلام ، والثقة بقوته ، وإنجاز الله وعده لرسوله . ولا يصح هذا القول إلا إذا كانت الآيات نزلت قبل فتح مكة ، مع الجزم بأن أوائل السورة نزلت بعد ذلك في حجة الوداع ، ويمكن حينئذ أن يكون المراد بالفتح فتح بلاد اليهود في الحجاز كخيبر وغيرها ، وفسر بعضهم الأمر من عنده بالجزية تضرب على أهل الكتاب فينقطع أمل المنافقين منهم ويندموا [ ص: 358 ] على ما كان من إسرارهم بالولاء لهم ، وفسره بعضهم بالإيقاع باليهود وإجلائهم عن موطنهم وإخراجهم من حصونهم وصياصيهم ، إما بالقهر والإيجاف عليهم بالخيل والركاب ( كبني قريظة ) وإما بإلقاء الرعب في قلوبهم ، حتى يعطوا بأيديهم ( كبني النضير ) .