[ ص: 360 ] هذه هي الحقيقة ، وأما خبر الغيب فهو أنه سيرتد بعض الذين آمنوا عن الإسلام جهرا ، فلا يضره ذلك ; لأن الله تعالى يسخر له من ينصره ويجاهد لحفظه ، فقال : ( يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ) قرأ ابن عامر ونافع " يرتدد " بدالين ، والباقون " يرتد " بدال واحدة مشددة ، وهما لغتان ; فلغة إظهار الدالين هي الأصل ، ولغة الإدغام تشديد يراد به التخفيف ، والمعنى : من يرتد منكم يا جماعة الذين دخلوا في أهل الإيمان عن دينه لعدم رسوخه ، فسوف يأتي الله مكانهم ، أو بدلا منهم بقوم راسخين في الإيمان يحبهم ويحبونه . . . إلى آخر ما ذكره من صفات المؤمنين الصادقين .
أخرج رواة التفسير المأثور عن قتادة ، واللفظ ، أنه قال : أنزل الله هذه الآية وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس ، لابن جرير محمدا صلى الله عليه وسلم ارتد عامة العرب عن الإسلام ، إلا ثلاثة مساجد - أهل فلما قبض الله نبيه المدينة ، وأهل مكة ، وأهل البحرين من عبد القيس . قالوا ( أي المرتدون ) : نصلي ولا نزكي ، والله لا نغصب أموالنا ، فكلم أبو بكر في ذلك فقيل له : إنهم لو قد فقهوا لهذا أعطوها وزادوها ، فقال : لا والله ، لا أفرق بين شيء جمع الله بينه ، ولو منعوا عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلناهم عليه ، فبعث الله عصابة مع أبي بكر ، فقاتل على ما قاتل عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى سبى وقتل وحرق بالنيران أناسا ارتدوا عن الإسلام ، ومنعوا الزكاة ، فقاتلهم حتى أقروا بالماعون - وهي الزكاة - صغرة أقمياء ، فأتته وفود العرب فخيرهم بين حطة مخزية أو حرب مجلية ; فاختاروا الحطة المخزية ، وكانت أهون عليهم أن يستعدوا ، أن قتلاهم في النار ، وأن قتلى المؤمنين في الجنة ، وأن ما أصابوا من المسلمين من مال ردوه عليهم ، وما أصاب المسلمين لهم من مال فهو لهم حلال ، فالقوم الذين يحبهم الله ويحبونه على هذا هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ، ونقل المفسرون هذا القول عن علي المرتضى والحسن وقتادة والضحاك ، ورووا عن أنه قال : إنهم السدي الأنصار ; لأنهم هم الذين نصروا النبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : هم الفرس لحديث ورد في مناقب سلمان أنهم قومه ، ولكنه ضعيف ، وقيل : نزلت في علي كرم الله وجهه ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم وعد في خيبر بأن يعطي الراية غدا رجلا يحبه الله ، ثم أعطاها عليا ، وليس هذا بدليل ، ولفظ القوم لا يجري على الواحد ; لأنه نص في الجماعة ، وغلاة [ ص: 361 ] الرافضة يزعمون أن الذين ارتدوا هم أبو بكر ومن شايعه من الصحابة ، وهم السواد الأعظم ، فقلبوا الموضوع ، ولكن عليا كان مع أبي بكر لا عليه ، ولم يقتله ، هذه دسيسة من زنادقة الفرس وساستهم الذين كانوا يريدون الانتقام من أبي بكر وعمر ; لفتحهما بلادهم ، وإزالتهما لملكهم ، وخيار مسلمي الفرس نصروا الإسلام فيدخلون في عموم الآية إذا جعلت لعموم من تتحقق فيهم تلك الصفات .
وروى أهل التفسير المأثور حديثا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في القوم الذين يحبهم الله ويحبونه : " إنهم قوم " ، وروي عن بعضهم أنهم من أهل أبي موسى الأشعري اليمن على الإطلاق ، والأشعريون من أهل اليمن ، وفي رواية : هم أهل سبأ ، وفي حديث آخر : " هؤلاء قوم من أهل اليمن من كندة ، ثم من السكون ، ثم التجيب " .
وقد رجح أن الآية نزلت في قوم ابن جرير ، من أهل أبي موسى الأشعري اليمن ، للحديث في ذلك ، وإن لم يكونوا قاتلوا المرتدين مع أبي بكر . قال : الله تعالى وعد بأن يأتي بخير من المرتدين بدلا منهم ، ولم يقل : إنهم يقاتلون المرتدين ، ورأى أنه يكفي في صدق الوعد أن يقاتلوا ولو غير المرتدين ، وأن مجيء الأشعريين على عهد عمر كان موقعه من الإسلام أحسن موقع ، ولقائل أن يقول : إن الآية تصدق في كل من اتصف بمضمونها ، ومن أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن قاتلوا المرتدين هم أهلها بالأولى .
أما الذين ارتدوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده فكثيرون ، وقاتلهم كثيرون ، فكان كل مفسر يذكر قوما ممن حاربوا المرتدين ، ويحمل الآية عليهم لمرجح ما ، فقد روى أهل السير والتاريخ أنه قد ارتد عن الإسلام إحدى عشرة فرقة ; ثلاث في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم : ( الأولى ) : بنو مدلج ، ورئيسهم ذو الخمار ; وهو الأسود العنسي ، كان كاهنا تنبأ باليمن ، واستولى على بلاده ، فأخرج منها عمال النبي صلى الله عليه وسلم ، فكتب صلى الله عليه وسلم إلى ، وإلى سادات معاذ بن جبل اليمن ، فأهلكه الله تعالى على يدي فيروز الديلمي ; بيته فقتله ، وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قتل ، فسر به المسلمون ، وقبض صلى الله عليه وسلم من الغد ، وأتى خبره في شهر ربيع الأول .
( الثانية ) : بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب بن حبيب ، تنبأ وكتب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم : من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله . سلام عليك . أما بعد : فإني قد أشركت في الأمر معك ، وإن لنا نصف الأرض ، ولقريش نصف الأرض ، ولكن قريشا قوم يعتدون . فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم رسولان له بذلك ، فحين قرأ [ ص: 362 ] صلى الله عليه وسلم كتابه قال لهما : " فما تقولان أنتما ؟ " قالا : نقول كما قال ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما " ، ثم كتب إليه " بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب . السلام على من اتبع الهدى ، أما بعد : فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين " ، وكان ذلك في سنة عشر ، فحاربه أبو بكر رضي الله تعالى عنه بجنود المسلمين ، وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه ، وكان يقول : قتلت في جاهليتي خير الناس ، وفي إسلامي شر الناس . وقيل : اشترك في قتله هو ؛ طعنه وعبد الله بن زيد الأنصاري وحشي ، وضربه عبد الله بسيفه ، وهو القائل في أبيات :
يسائلني الناس عن قتله فقلت ضربت وهذا طعن
( الثالثة ) : بنو أسد ; قوم ، تنبأ ، فبعث طليحة بن خويلد أبو بكر رضي الله عنه إليه ، فانهزم بعد القتال إلى خالد بن الوليد الشام ، فأسلم وحسن إسلامه .عهد أبي بكر ( 1 ) : وارتدت سبع فرق في فزارة قوم عيينة بن حصن . ( 2 ) غطفان قوم قرة بن سلمة القشيري . ( 3 ) بنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل . ( 4 ) بنو يربوع قوم مالك بن نويرة . ( 5 ) بعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر الكاهنة ، تنبأت ، وزوجت نفسها من مسيلمة في قصة شهيرة ، وصح أنها أسلمت بعد ذلك ، وحسن إسلامها . ( 6 ) كندة قوم . ( 7 ) الأشعث بن قيس بنو بكر بن وائل بالبحرين ، قوم الحطم بن زيد ، وكفى الله تعالى أمرهم على يدي أبي بكر رضي الله تعالى عنه .
عمر رضي الله عنه وهم وارتدت فرقة واحدة في عهد غسان قوم ، تنصر ولحق جبلة بن الأيهم بالشام ، ومات على ردته ، وقيل إنه أسلم ، ويروى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أحبار الشام لما لحق بهم كتابا فيه : إن جبلة ورد إلي في سراة قومه فأسلم ، فأكرمته ، ثم سار إلى مكة فطاف ، فوطئ إزاره رجل من بني فزارة ، فلطمه جبلة فهشم أنفه وكسر ثناياه - وفي رواية : قلع عينه - فاستعدى الفزاري على جبلة إلي ، فحكمت إما بالعفو وإما بالقصاص ، فقال : أتقتص مني وأنا ملك وهو سوقة ؟ فقلت : شملك وإياه الإسلام ، فما تفضله إلا بالعافية . فسأل جبلة التأخير إلى الغد ، فلما كان من الليل ركب مع بني عمه ، ولحق بالشام مرتدا ، وروي أنه ندم على ما فعله وأنشد :
تنصرت بعد الحق عارا للطمة ولم يك فيها لو صبرت لها ضرر
فأدركني منها لجاج حمية فبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني صبرت على القول الذي قاله عمر