ثم انتقل من بيان حال اليهود إلى بيان حال النصارى في دينهم فقال عز وجل : ( لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) أكد تعالى بالقسم كفر قائلي هذا القول من النصارى ; إذ غلوا في إطراء نبيهم المسيح ابن مريم عليه السلام غلوا ضاهوا به غلو اليهود في الكفر به وقولهم عليه وعلى أمه الصديقة بهتانا عظيما ، ثم صار هو العقيدة الشائعة فيهم ، [ ص: 400 ] ومن عدل عنها إلى التوحيد يعد مارقا من دينهم ، ذلك بأنهم يقولون إن الإله مركب من ثلاثة أصول يسمونها " أقانيم " ، وهي : الآب ، والابن ، وروح القدس . ويقولون : إن المسيح هو الابن ، والله هو الآب ، وأن كل واحد من الثلاثة عين الآخرين ، فينتج ذلك أن الله هو المسيح ، وأن المسيح هو الله بزعمهم . وقد تقدم تفسير مثل هذه الجملة في تفسير الآية الـ 17 من هذه السورة ( راجع ص254 وما بعدها ج 7 ط الهيئة ) .
( وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم ) أي والحال أن المسيح قال لهم ضد ما يقولون ; أمرهم بعبادة الله تعالى وحده ، معترفا بأنه ربه وربهم ، فاعترف بأنه عبد مربوب لله تعالى ودعا بني إسرائيل ، الذين أرسل إليهم ، أن يعبدوا الله الذي يعبده هو ، ولا يزال أمره هذا محفوظا عندهم فيما حفظوا من إنجيله في هذه الكتب ، التي كتبت لبيان بعض سيرته وتاريخه ، وهي التي يسمونها الأناجيل ; ففي إنجيل يوحنا منها عنه عليه السلام ما نصه : " 7 : 3 وهذه هي الحياة الأبدية ; أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته " ، فدين المسيح مبني على التوحيد المحض ، وهو دين الله الذي أرسل به جميع رسله ، وسنعود إلى بيان ذلك في تفسير قوله تعالى في آخر هذه السورة حكاية عنه عليه السلام : ( ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم ) ( 5 : 117 ) .
( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) أمرهم عليه السلام بالتوحيد الخالص ، وقفى عليه بالتحذير من الشرك ، والوعيد عليه ، ببيان أن الحال والشأن الثابت عند الله تعالى هو أن كل من يشرك بالله شيئا ما من ملك أو بشر أو كوكب أو حجر أو غير ذلك ، بأن يجعله ندا له ، أو متحدا به ، أو يدعوه لجلب نفع أو دفع ضر أو يزعم أنه يقربه إلى الله زلفى ، فيتخذه شفيعا ، زاعما أنه يؤثر في إرادة الله تعالى أو علمه ، فيحمله على شيء غير ما سبق به علمه ، وخصصته إرادته في الأزل ، من يشرك هذا الشرك ونحوه فإن الله يحرم عليه الجنة في الآخرة ، بل هو قد حرمها عليه في سابق علمه ، وبمقتضى دينه الذي أوحاه إلى جميع رسله ، فلا يكون له مأوى ولا ملجأ يأوي إليه إلا النار ، دار العذاب والهوان ، وما لهؤلاء الظالمين لأنفسهم بالشرك من نصير ينصرهم ، ولا شفيع ينقذهم ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) ( 2 : 255 ) ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون 21 : 28 ) فالنافع رضاه ( ولا يرضى لعباده الكفر ) ( 39 : 7 ) وشر أنواعه الشرك . ونكتة جمع الأنصار مع كون النكرة المفردة تفيد العموم في سياق النفي هي التنبيه على كون النصارى كانوا يتكلون على كثير من الرسل والقديسين ; إذ كانت وثنية الشفاعة قد فشت فيهم ، وإن لم تكن من أصل دينهم .